لماذا لا نأكل مما نزرع؟

عبد الله العليان

عندما وعينا على الحياة وحركة النشاط المعيشي، كنا نشاهد موسم الحصاد في ظفار، وبالأخص في مدينة صلالة، حيث يتجمع المزارعون في أماكن معروفة من كل عام، حيث يتم تجميع سنابل القمح واستخراج الحبوب بوسائل بدائية، كل له مكان محدد، مع استعانة البعض ببعض العمال المهرة في استخراج هذه الحبوب وتنظيفها، ثم يتم البيع والشراء في تلك الأماكن من بعض التجار، وكذلك يتم شراء القمح من قبل مواطنين في بعض الولايات الأخرى الذين يأتون لهذا الأمر، خصوصاً من المناطق التي ليس فيها مقومات الزراعة.

كانت المزارع في مدينة صلالة وبعض الولايات التي  تشتهر بزارعتها للقمح، عامرة بهذه الأنواع من الزراعة، وكذلك غيرها من الثمار الأخرى من المزارع، إلى جانب الفواكه المختلفة، وثمار نخيل النارجيل، وأتذكر أنّ بعض المزارعين كانوا يعطون المارة ممن يحتاج منهم بعض الثمار والخضار والفواكه مجاناً، نتيجة الاكتفاء بما لديه وهي عادة من عادات التعاون الذي ساد تلك الأجيال، إذا لم يكن منهم من يتهم ببيع بعض المنتجات الزراعية، وهذا ينطبق أيضاً على بعض الولايات العمانية الأخرى، حيث اشتهرت عمان منذ أقدم العصور بحقول الواحات والسهول الزراعية، إلى جانب الجبال والوديان التي أقيمت فيها الزراعة أيضاً، وكان هناك اكتفاء ذاتي، سواء عند انقطاع الواردات، في الحرب العالمية الأولى والثانية، أو الأوقات العادية، بل ويتم تصدير الكثير من المنتجات الزراعية إلى بعض مناطق ومدن دول الجوار.

ويذكر كبار السن، في ظفار، أنّه أثناء الحرب العالمية الثانية بالأخص، تمت زراعة جزء كبير من سهل صلالة، القريبة من العيون: كعين حمران وعين جرزيز، وعين رزات، مقابل بعض الرسوم الرمزية للحكومة، كما أن الكثير من المناطق في الجبال أثناء الحرب العالمية تمت زراعتها لفصول عديدة بالبقوليات والخضار، بسبب قلة الواردات من الخارج، ولم يشعر السكان بأزمة معيشية مع هذه الحرب الطاحنة التي نتجت عنها الكثير من المجاعات في بعض الدول إلى جانب مآسي الحروب وأثارها المدمرة.

قد يقول البعض إنّ أعداد السكان آنذاك كانت قليلة، مقارنة بعدد السكان اليوم، مما دعت الحاجة في وقتنا الراهن إلى استيراد الكثير من الخارج، نقول له: نعم كان عدد السكان قليلا بالمقارنة بعدد السكان في الفترة، لكن كانت وسائل الزراعة في ذلك الوقت بدائية جدا، والظروف المادية أيضا محدودة لتوسيع رقعة الإنتاج، ومع ذلك تمكنوا من الاعتماد على الذات، وحققوا الاكتفاء الذاتي بقدر حاجة السكان، مع أنّ تلك الوسائل لم تكن تعين المزارع على الإنتاجية المطلوبة، لكن الآن ومع تقدم وسائل التقنية الحديثة للزراعة وأجهزة مقاومة آفات المزروعات فيمكن تحقيق إنتاج أكبر من الزراعة؛ حيث إنّ الوسائل الحديثة - كما أشرنا - سواء في حرث الأرض، أو توزيع المياه، أو وضع البذور، كلها طرق تجعلنا نحقق الاكتفاء الذاتي من القمح ومن الخضروات، أو الفواكه دون الاستيراد من خارج بلادنا!

والحقيقة أنّ هذه القضية تحتاج إلى إعادة نظر وتقييم لواقع الزراعة في بلادنا، في مسألة استيراد غالبية المنتجات من القمح أو الخضار، أو الفواكه، وعندما ندخل إحدى محلات بيع الخضار والفواكه، نجد أنّ غالبية هذه المنتجات تستورد من الخارج، وإذا وجدت بعض المنتجات المحلية،  فإنّها منتجات قليلة جدا، أو معدومة تماماً، وهذه إشكالية ليست هينة، ليس لأننا نستطيع الشراء بحسب الظروف القائمة، لكن لأننا نحقق الاكتفاء من أساسيات مهمة وضرورية، إذ أنّ عالم اليوم أصبح مضطرباً ومتوتراً، واستقراره هشاً، ولا ندري ماذا يكون عليه الحال بسبب هذه الظروف، لو بقينا نعتمد على الخارج، في الكثير من حاجاتنا الغذائية، بل ومن المهم أيضاً أن تتحرك موانئنا للاستيراد مباشرة، بدلا من شراء التجار والمواطنين من خارج بلادنا، حتى نضمن أننا نعتمد على الذات، وليس على بعض ما تعودنا عليه من حركة في العقود الماضية، وهذا أيضا من القضايا التي يجب أن تأخذ في الحسبان، وأهمها الاعتماد على الذات، والاكتفاء الذاتي يعد في سلم الأولويات.

قضية الاكتفاء الذاتي ليس قضية وزارة بعينها، لكنها قضيّة قومية في المقام الأول، وتحريك الموانئ وتنشيطها للصادرات والواردات، تحتاج إلى فاعلية أكبر، لكننا نقول لوزارة الزراعة أنّها تقع عليها مهام تشجيع المزارعين، وتقديم الدعم التي تسهم في العودة إلى مزارعهم، وتشجيع المبادرات الأهلية في إقامة مشروعات وطنية عملاقة، تسهم في الاكتفاء الذاتي، ولا نريد أن نسترجع ما فات من إهمال في مجال التنمية الزراعية في العقود الأربعة الماضية، لكننا لم نفقد الأمل في أن تتحرك جهات الاختصاص، وإلقاء الحجر في المياه الراكدة في مسألة الاكتفاء الذاتي من خلال تشجيع المزارعين الذين يملكون الأرض، والاهتمام بإقامة دعم المبادرات الوطنية لإقامة مشاريع زراعية تحقق بلادنا (الاكتفاء الذاتي)، وهذه أراها قضية القضايا في عصرنا الراهن الذي يموج بالتوترات والصراعات، وهذا ما نراه مهماً في بلد ينعم بالأمن والآمان.. رسالة لمن يهمه الأمر.