المتقاعدون يتساءلون: أين ترقيات 2010؟

 

د. عبدالله باحجاج

التساؤل المذكور في العنوان يُطرح الآن بعد أن تم الإفراج مؤخرا عن ترقيات 2010، ولم تشمل المتقاعدين الذين أحيلوا للتقاعد القانوني، والكثير منهم من مُستحقي هذه الترقيات منذ ثمان سنوات- أي قبل إحالتهم للتقاعد-.. لذا أليس من حقهم هذه الترقيات؟ فقد أحيلوا للتقاعد، ويفترض أن يكونوا قد استحقوا ترقيتين وليس ترقية قبل تقاعدهم، فكيف يُحرمون من حق مستحق لهم من كل الاعتبارات القانونية والإنسانية والوطنية؟

نبدي هنا تعاطفًا موضوعيًا مع هذه الفئة المظلومة بعد أن اتصل بنا الكثير منهم، طالبين منِّا فتح ملف ترقياتهم، وهذا شرف لنا، خاصة وأننا نعيش الوسط نفسه، بكل تفاصيله، وأدقها، ونعلم يقينًا كم ستكون فرحتهم كبرى لو انفتحت الحكومة على هذه الترقيات الآن، لأننا- وللعلم نفسه- هم محتاجون لهذه الترقيات من منظورين هامين، معنوي ومالي، وكلاهما متلازمان، فهذا الجيل ساهم في حمل أمانة بناء دولتنا الحديثة، ونتوقع أنه بعد ثلاث سنوات، وهي مدة قصيرة جدا، لن يظلوا في مواقعهم الوظيفية، فسيحالون جميعًا، دفعات أو فرادى، والأغلبية جماعات، للتقاعد القانوني، ولو تأملنا مثلاً في مكتب وزير الدولة ومحافظ ظفار، فمن مدير عام إلى مستشار وخبير ومدير وأخصائي.. والكثير من رؤساء الأقسام، سيُحالون خلال تلكم الفترة الزمنية القصيرة جدًا للتقاعد، ويمكن قياس ذلك على بقية الوحدات الحكومية، وهذا يعني أنَّ الجيل المؤسس سيُغادر الخدمة الوطنية، والقلق مسيطر على كينوته من شبح التقاعد المخيف.

من هنا، فعندما نحاول الآن استدعاء البُعد السيكولوجي "النفسي" لهؤلاء المتقاعدين الذين يطالبون بترقياتهم، قبيل تقاعدهم وبعد تقاعدهم والآن حرمانهم من ترقياتهم، سنجدهم أكثر كآبة، ونفسياتهم مليئة بالألم والمرارة، يتولد لدينا هذه الإحساس العميق بهم إلى مستوى تلبس حالتهم النفسية، فتمكنا من استشراف تداعياتها من مقارنة وضعين، الأول، وضعنا ونحن نستلم مرتباتنا كاملة، ورغم ذلك نعجز عن الوفاء باستحقاقاتنا الأسرية والاجتماعية إلى نهاية كل شهر، والبعض منِّا يقف في منتصفه، والثاني، وضعهم التقاعدي بعد خصم نصف مرتباتهم تقريبًا- حسب المرتبات- ويعطون مبلغاً لا يتجاوز 12 ألف ريال مكافأة تقاعد، إنه شعور لن يوصف، ويمكن التعبير عنه "بالمؤلم نفسيا" رغم أنه لا يمكن أن ينفذ لتصوير حالتهم النفسية، لكن يمكن إدراكها بالحواس الخمس من خلال تلكم المقارنة، أو من يعيش في هذا الوسط الاجتماعي.

وبصرف النظر عن هذه الأبعاد النفسية والاجتماعية، فإنَّ عملية استحقاق هذه الترقيات أسوة بالموظفين الحاليين، لها عدة أبعاد حتمية وملزمة للغير، في ظل وجود قصور مؤسساتي في مآلات أوضاع المتقاعدين الراهنة، فهذه المؤسسات قد قصَّرت في تنفيذ توجيهات سامية، لو نفذت في حينها، لما أوصلنا المواطنين إلى مثل هذه الحالة النفسية والاجتماعية المعقدة جدًا، فالتوجيهات منذ سنوات- نعتقد منذ 2011- كانت تقضي بتوحيد أنظمة وتشريعات وهياكل صناديق التقاعد في البلاد، بدلاً من تعددها وتنوعها، واستفراد كل واحد منها بمزايا ومنافع تنافسية، تفتقد لمعياري المساواة والعدالة، واللذين بسببهما جاء التوجه السامي لتحقيق هذين المعيارين "المساواة والعدالة" مع الاعتداد بطبيعة عمل جهة حكومية، وذلك لكي تعبر هذه الصناديق عن وحدة المواطنة، واتحاد منظومة الولاء والانتماء المُشتركة، الفوقية والتحتية، وتعميقها في بينة الدولة العُمانية الحديثة.

وتوحيد صناديق التقاعد لم يحدث حتى الآن، فاستمرت عملية تشطير نفسيات وأوضاع الاطمئنان لموظفي الدولة بين صناديق آمنة، وأخرى مُقلقة، وهذه الأخيرة هي الآن في مرحلة متطورة من القلق، وهي ما يُمكن تسميته بالقلق المُخيف في ظل توجه الحكومة نحو نظام الجبايات والرسوم الشاملة والمتشددة في كل مناحي حياتنا الاجتماعية، من هنا، فإنِّ هذه الترقيات تعني لمثل هؤلاء المتقاعدين الشيء الكثير، فالريالات التي ستدخل مرتباتهم بسبب الترقية، قد تعزز مسيرة المُتقاعدين الشهرية، أو قد تؤمن لهم على الأقل عدم قطع خدمات الماء والكهرباء التي يمارس في استحقاقها وسائل مشددة، ما حول شركات تحصيل الفواتير، لسيف على رقاب المواطنين.

وهنا لا ينبغي التقليل أبدًا مما نطرحه هنا من صور لعمق تجليات البعد السيكولوجي للمتقاعدين، ولن يشعر به كل من له لديه مصادر دخل عديدة ومتنوعة سواء من عرق جبينه أو من خلال منظومة الانتفاع الخاصة التي استولت على الأرض والثروات، فمثل هؤلاء سيشوشون على صور التداعيات، وعلى مناخات التجليات، وعلى الأقل التهمة جاهزة وهي "المبالغة" أما الذين يتمركزون في قلب الراتب المحدود، وهم الأغلبية، فسيشعرون بأنني أجسد معاناتهم القادمة، وأما المتقاعدون أنفسهم، فأخشى أن أكون قد قصرت في التعبير ونقل مُعاناتهم كما يجب، لكن، وإن قصرت، فإنَّ قضيتهم مدركة بكل لغات ولهجات الحواس الخمس، إلا إذا كان هناك عطل في كلها، وليس بعضها، فالتبعيض هنا، سيكون كافيًا لدواعي الإدراك والإحساس.. لكن المشكلة إذا كان العطل في كل الحواس.

وفي لحظات كتابة هذا المقال، توارد إلى الذهن فورا، مقولة قديمة لعاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- ربما ترجع إلى العيد الوطني التاسع، وقد تكررت مؤخرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا، وهي تلامس الجوهر الحقوقي والإنساني لبناء دولتنا الحديثة، وتدعم حق استحقاق المتقاعدين في ترقيات 2010، ففي إحدى فقرات خطاب العيد الوطني المجيد، قال جلالته- حفظه الله- موجهًا حديثه لكل المسؤولين في البلاد من وزير ووكيل.. قائلاً "وهناك أمر هام يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، ألا وهو أنهم جميعاً خدم لشعب الوطن ومواطنيه". ومن هذه المرجعية السياسية العليا، يقع على الحكومة أن تخدم هؤلاء المتقاعدين، عبر التسليم بحقهم في الترقية قبل تقاعدهم، وعدم سقوطها بعد تقاعدهم، وإلا، فإنهم يخرجون من تلك الصفة الموسومة "بخدمة الشعب" فمشروعية مناصبهم قائمة على مثل هذه الخدمات التي تمس حياتهم، وليس البحث عن ثغرات قانونية أو تكيفيات، ينفذوا من خلالها لحرمان المواطن من حق مستحق، فأين هم من تطبيق ذلك التنظير السياسي؟ وهو يلزم كل فاعل شُرِّف بمسؤولية حكومية ورسمية بخدمة المواطنين، وعليه توفير كل الظروف المواتية لاستحقاق حقوقهم وتأمينها، وليس انتقاصها سواء من خلال تطوير التشريعات والقوانين أو تفسيراتها وتأويلاتها، فكيف إذا كان من شرفوا بمناصف كبيرة قصروا في تحسين أوضاع المواطنين بتأجيل أو تأخير تنفيذ التوجيهات، فهل يحرمون حق الترقيات المستحقة؟

وأخيرًا.. هل سنسمع أخبارا سارة قريبة عن استحقاقهم المستحق في الترقيات؟ الظرفية المالية مواتية، وآخر بشائر الخير، ما أعلنت عنه مؤخرًا إحدى الشركات عن اكتشافات نفطية وغازية كبيرة في بحر عمان، وبشرت بالمزيد قريبًا، وهذه الخيرات المتصاعدة، تتزامن مع دخول إيرادات جديدة وكبيرة لخزينة الدولة خلال موازنة 2019، فهل ينبغي أن ينتفع منها المواطن أم نساهم في إحكام الخناق عليه؟ فهنا منطقة رفع المعنويات تجاه هذه الفئات المتقاعدة، وتوقيتها ملح الآن عشية احتفالات البلاد بعيدنا الوطني المجيد، وهي منطقة ذات حمولة إنسانية غالبة، وإدخال السرور والفرحة لهذه الفئات تسر كل المجتمع، ومرحلتنا الوطنية الراهنة في أمس الحاجة إلى المزيد من الفرحة، بعد أن كرمنا الله جلَّ في علاه، بخيرات اقتصادية كثيرة ومتعددة، فهل سيكون لها انعكاسات على المجتمع أم سيستمر الخناق عليه؟!