د. عبدالله باحجاج
عنوان المقال أعلاه يقلب العبارة المُتعارف عليها وهي "قهر القوي للضعيف"، فكيف للضعيف أن يقهر القوي؟! بمعنى كيف لغزة أن تقهر جيشًا يُقال إنِّه "لا يُقهر"، وتقف معه دول كبرى في مُقدمتها الولايات المتحدة؟
انتصارات غزة تُحتِّم علينا أن نكون في مستوى صمودها، ونقرأ نتائجها من منظور الصيرورة ودونها- أي الصيرورة- سيكون من الصعب على الأغلبية فهمها واستيعابها؛ لذلك نستنطقها ونؤطرها بهدف تعزيز الوعي العربي الإسلامي الجديد الذي يتشكل منذ السابع من أكتوبر 2023. فمنذ ذلك التاريخ الخالد، أصبحت غزة سببًا في تحوُّل وتغيير كل المُتعارف عليه من الحقب الزمنية الماضية، وتقلب مفاهيمها ومعادلاتها، كمفهوم "القوي يقهر الضعيف"، وقد قلبتها رأسًا على عقب، وسجلت من خلالها انتصارات عظيمة، صحيح بأثمانٍ كبيرة، لكنها حاملة للصيرورات العابرة للحدود.
فكيف تمكن رجال المقاومة في غزة من قلب تلك المُعادلة، وصار ضعفهم قوةً مُرعبةً؟ سنقف هنا على مسارين مُتزامنين، يشكلان خارطة طريق لكل دولة أو مجتمع يشعر بقهر القوي أو بقوة الضعيف؛ سواءً كان هذا القاهِر دولًا أو أفكارًا وآيديولوجيات أو تحديات داخلية مهما كانت.. وهما:
أولًا: بناء القوة الإيمانية رأسيًا وأفقيًا وبنيويًا، ومن ثم أصبحت هذه القوة العامل المشترك الجامع للكل، مهما كانت الاتجاهات السياسية، ومهما كان الاختلاف في الاجتهادات الزمنية، وهي بذلك تسترشد بالحديث الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير". وهذا الحديث من جوامع الكَلِم التي أوتيها رسولنا الأعظم، وهي نصيحة غالية، ودعوة صريحة- كما يقول العلماء- للأمة الإسلامية، أفرادًا ودولًا، وقد استرشد بها رجال المقاومة الإسلامية في غزة، وأسسوا أولًا قوتها الإيمانية من الأجيال؛ فشربوا القضية قبل أن يُفطَموا، وأصبحوا من خلالها قوة مرعبة، قوة صامدة، قوة النصر الذي لا محالة.
كل من في غزة من بشر وحجر وشجر مُبرمَج إيمانيًا ومعنويًا على أنه يحمل في داخله قوة النصر الحتمي، وإلّا، فكيف ومن يفسر لنا صمود أهل غزة رغم الإبادة الجماعية ورغم التجويع ورغم التهجير ورغم استمرار الحرب الصهيونية شبه العالمية، ورغم خذلان الشقيق بالجنب وغير الجنب؛ بل وتواطؤ بعضهم ضدهم؟ ورغم، ورغم.. فهم صامدون مُرعِبُون يخشاهم العدو وكل مُتصَهْيِن.
ثانيًا: بناء القوة المادية، وقد بُنيت بصورة متوازنة مع تأسيس القوة الإيمانية استرشادًا بمنطوق ذلك الحديث الشريف؛ فمفهوم القوة يشملُ كذلك القوة المادية، وفي غزة تلتقي القوتان: الإيمانية والمادية معًا، مع تسجيل الفارق النووي للقوة الإيمانية، التي من دونها لن تصمد القوة المادية لوحدها إذا التقت مع قوة مادية أقوى منها. وهنا الفارق بين القوتين الإسلامية والصهيونية، وهنا تكمُن الدوافع والأسباب والنتائج وراء رُعب قوة المقاومة وصمودها، وهي في شهرها الخامس، مُحتفظةً بنفس زخمها وقوتها المرعبة.
السِّرُ الأعظم يكمنُ في القوة الإيمانية في ظل النسبية المطلقة لقوتهم المادية مقارنة بقوة الصهاينة وحلفائهم الظاهرين والمستترين، لذا أحدثت القوة النسبية المادية، القوة المتفوقة على القوة المُطلقة "المزعومة" في ساحة المعارك، وكذلك على مستوى التنظيرات الفكرية التي أبرزها الانقلاب في مفهوم القوة المادية، وإظهار ضعفها كقوة، وقوتها كضعف. دليل ذلك أنه طوال الخمسة أشهر لم تحدث في قوة الضعيف المادية انهيارات معنوية وسيكولوجية لدى رجال المقاومة وحاضنتهم الديموغرافية والشعبية، على عكس ما يحدث للصهاينة وحلفائهم الذين يتخبطون في أقوالهم وتصريحاتهم واعترافاتهم. ولنا في اعترافات لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي في جلسة استماع للكونجرس ما نُوظِّفه هنا. فبعد أن أعترف أن دولة الصهاينة قتلت أكثر من 25 ألف امرأة وطفل، سارع البيت الأبيض إلى استدراك هذا الاعتراف بسطحية سياسية، وذلك عندما قال إن الوزير تبنى إحصائية وزارة الصحة الفلسطينية، وأن ذلك العدد هو إجمالي من سقط في الحرب حتى الآن! وهنا استخفاف بالعقول.
لولا القوة الإيمانية، وهي الأساس، مُعزَّزة بقوة مادية نسبية، ما صمدت غزة حتى يومنا هذا، فكيف لقلبِ بشرٍ خالٍ من الإيمان القوي أن يتحمل حربًا بربرية متواصلة منذ 5 أشهر، ارتكبت قوات الصهاينة خلالها 2581 مذبحة أسفرت عن أكثر من 36 ألف شهيد ومفقود، وإصابة ما يزيد عن 69 ألفًا آخرين. وهذه إحصائية غير نهائية، فلم تضف إليها مذبحة المساعدات التي راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد، ومئات الجرحى، ومع هذا يزداد الشعب الفلسطيني في غزة التفافًا حول المقاومة، وإقبالًا على الجهاد. وفي الوقت نفسه، تصحو ضمائر الشعوب الحرة في عواصم العالم، وتُعبِّر عن مواقفها بمختلف الوسائل.
وقوة ضعف غزة لم تعد تقتصر داخل قطاع غزة فقط، وإنما أصبحت عابرة للحدود، ومخترقة للأفكار والانتخابات، فقد تحدثنا عن تأثيرها على حرية الملاحة البحرية في البحر الأحمر، والآن نقفُ عند تأثيرها على مستقبل الانتخابات في أوروبا، ومؤشرها الإيجابي فوز السياسي المخضرم جورج جالاوي في الانتخابات البرلمانية البريطانية بنسبة مريحة، وقد وصف ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني هذا الفوز بـ"الأمر المُثير للقلق"، وكان جالاوي قد أهدى فوره إلى غزة، واصفًا الانتخابات بأنها كانت استفتاءً على غزة. وقد رحبت منظمات التضامن البريطانية والحركات المناهضة للحرب في المملكة المتحدة بهذا الفوز. والغرب بما فيه أمريكا مقبل خلال شهور على انتخابات رئاسية وبرلمانية، ومن المؤكد أن غزة ستكون مؤثرة فيها.