أين إمبراطوريتنا؟!

 

علي بن مسعود المعشني

 

التاريخ يتحرَّك داخل الجغرافيا والجغرافيا ثابتة على الدوام، فحيوية التاريخ بمده وجزره وأقوامه حركة تحمل الكثير من التأمل والتدبر والمواعظ والتي لايُدركها سوى أولي الأبصار من الناس أما الغائرون في هامش الحياة فلايرون في كل هذا الحراك والتدافع سوى حالات شبيهة بتعاقب الليل والنهار ومظاهر الطقس لا أكثر.

التاريخ بطبيعة الحال يُصنع من قبل أولي العزم من النَّاس وهو أمر بلاشك صعب وعسير ولكن الأصعب من صناعة التاريخ هو الحفاظ على التاريخ ومحاكاته لاحقًا وإعادة إنتاجه على الدوام وبأدوات عصره.

الخلافة العُثمانية كانت إمبراطورية مترامية الأطراف دامت أكثر من ستة قرون من الزمان ولكنها كانت تحمل في جذور مكوناتها بذور الفناء، فمن أقاموها لم يكونوا يقيمون وزنًا للعقل والعلم، وقدموا ثقافتهم العضلية على كل شيء آخر، فأفتتنوا بالمال والبنون والعسكرة والحروب والدروشة ولم يكترثوا لصنع الحياة والتي لا يقيمون وزنًا لها على ما يبدو ولا يجيدون صناعتها، لهذا كان من الطبيعي أن تمرض الخلافة وتتآكل بالتدريج وتفقد مناعتها إلى درجة الخطر على زوال الحاضن الجغرافي الطبيعي للخلافة، وهي تركيا الحالية، الأمر الذي تنبه له مصطفى كمال أتاتورك وبضعة من زملائه فعملوا على إنقاذ بلدهم من أعراض الخلافة المُتهالكة وتنقيتها مما علق بها من مثالب وأدران كانت عائقًا كبيرًا أمام بناء الدولة العصرية التركية وتجاوز آثار الثقافة العضلية التي رسختها الخلافة العثمانية في رعاياها فأنستهم لغة العقل وأدوات المُستقبل من علوم وتراجم ومُحاكاة شعوب وثقافات تؤهل على التطور والرسوخ ومواكبة العصر.

الخطوة التاريخية التي أقدم عليها الزعيم أتاتورك- والذي يُقدسه الأتراك ويكرهه العرب لأساطير وخرافات إخوانية دُست في المناهج والمُؤلفات والإعلام- ألهمت الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة (البريطانية والفرنسية) بجدوى تطبيق النموذج الأتاتوركي بالانسحاب من مُستعمراتهم وتعزيز كياناتهم الأصلية، ونضجت قناعات هذه الإمبراطوريات بعد أن وضعت الحرب الأوروبية الثانية أوزارها عام 1945.

الفارق الوحيد بين قرار أتاتورك وقرارات الغربيين هو أن أتاتورك تخلى عن جميع كيانات الخلافة العثمانية وشعوبها؛ حيث استنتج مما رآه وعاشه في بعض الأقطار العربية أن الخلافة كانت احتلالا مباشرًا لبلدان وشعوب وبالإكراه باسم الخلافة الإسلامية وبالتالي قطع كل وشائج الخلافة مع تلك البلدان وشعوبها كونها ذكرى سيئة لهم، بينما خرج المستعمر الغربي من مستعمراته عبر الباب وعاد من النافذة بتبعيته وقوته الناعمة وخرج بعتاده من الحقول ولكنه بقي بتأثيره في العقول بثقافته ولغته وإبهاره وكما يصفه المفكر الجزائري د. أحمد بن نعمان.

إمبراطوريتنا العُمانية وكما هو معلوم امتدت بحكم أعراض فائض القوة ولزومياتها بداخل الجزيرة العربية وشرق أفريقيا والقرن الأفريقي وجيوب بباكستان وإيران، وامتدت بآثارها إلى وسط أفريقيا وتخوم الصين وسواحل الهند والشاطئ المقابل والبصرة. وبنت الإمبراطورية العُمانية هويتها على نُصرة الحق ورفع المظلوميات ونشر القيم؛ حيث دحرت الغزوات والاحتلالات البرتغالية والفارسية عن أراضيها وأراضي الخليج العربية وشرق أفريقيا ونصرت البصرة وأهالي سقطرى، ونشر تجارها الإسلام في ربوع المعمورة بأخلاقهم وسماحتهم وقيم الإسلام ومقاصده ونظرته للبشر على قاعدة أنّ الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

لهذا يمكننا القول إنَّ الإمبراطورية العُمانية هي أول إمبراطورية قيمية في التاريخ البشري والتي لم تعتمد القوة العارمة في تمددها وتوسعها، لهذا بقيت خفاقة وناصعة وحاضرة في قلوب ووجدان كافة الشعوب التي رعتها أو تعاملت معها ولغاية اليوم. شعوب وأقطار كثيرة اليوم تناجي الإمبرطورية العُمانية في عهدها الزاهر الميمون ولكن دون صدى، حيث يبدو أننا ارتضينا لهذا المُنجز العُماني والبشري العظيم أن ينام هانئًا على أرفف الزمن وبين أسطر المخطوطات وأبيات القصيد وأن نلوح به وقت الحاجة بأننا من شعوب "كانوا وكنَّا"، بينما كان من اليسير علينا بعث إمبراطوريتنا بلغة وأودات عصرنا عبر أساطيل القوة الناعمة ومنطق عصر اليوم بالدبلوماسية الفاعلة وبلغة المال والأعمال وبالقلوب المفتوحة والأياد الممدودة فممكناتنا وأدواتنا اليوم أكبر بكثير من أدوات وممكنات أسلافنا لوعلمنا.

قبل اللقاء: صناعة التاريخ حرفة صُناع الحياة ومن يُتقن صُنع الحياة يسهل عليه تقرير مصيره ومصائر الكثير ممن حوله فللنفض الغبار عن عقولنا ونُعيد حقنا المشروع في صناعة التاريخ والحياة معًا.

وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com