التطفّلُ على بابِ اللهِ

محمد علي العوض

يصف الباحث العرفاني بدر الدين أبو البراء حكم ابن عطاء الله السكندري بأنّها "قليلة الكلمات واسعة المعنى" قبل أن يسمها بشاعرية أكثر -في حلقة من حلقات برنامج "على مدارج السمو" والذي تقدمه الإعلامية لمياء متوكل على أثير إذاعة البيت السوداني- بأنّها أكثر ملامسة للقلوب وتأثيرا فيها، والقلب يوجه الإنسان كما الرأس، لكن أصحاب التوجيه القلبي يتميزون بالاطمئنان ومعرفة أحوال أفعالهم بعكس الذين توجههم رؤوسهم حيث تكثر عثراتهم لأنّ الرأس هو مكان الضجيج. وحتى يكون القلب مكان التوجيه والحركة والسكون بدلا من الرأس فهذه رحلة شاقة، إذ لا يمكن أن تعيش خارج اللحظة والسكون أو خارج القلب وفجأة تريد أن تتحول من توجيه الرأس إلى القلب؛ نعم تستطيع لكن لابد أن تتحمل ضريبة الطريق؛ لأن الطريق من الرأس إلى القلب فيه أنواع من المشاق لكنك عندما تصل إلى مبتغاك ستجد بُغيتك؛ فالرحلة ليست مستحيلة.

ولأنّ المحاور الجيّد يعرف كيف يستخرج من صدف السؤال اللآلئ ألقت صاحبة البرنامج- لمياء متوكل- سؤالا وجوديا لا يرتوي بالإجابة أبدا مفاده: أين تكمن الروح.. وأين هي من هذا كله؟ ليجيب الباحث العرفاني أبو البراء أنّ الروح في القلب، وأنّ الإشارة إلى القلب هي إشارة إلى السكون والطمأنينة كقولهم "شيءٌ وقر في قلبه"، "إنَّ جَنَّتي وبُستاني في صَدري"، " إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يَقْلِبُ وَيَصْرِفُ كَيْفَ شَاءَ" والقرآن عندما يتحدث عن القلب فهذا يأتي في سياق مركزية الروح التي تكمن في الكل، وأشير هنا إلى أن هناك جزءًا من أرواحنا يبحث عن الروح الكلية وهي الروح الإلهية، لذا يقول جل جلاله: "ونفخت فيه من روحي" والإشارة إلى رمزية القلب هي إشارة إلى قضية الروح، ولا نستطيع القول إنّ القلب ليس رمزية على الروح، أو أن الروح ترمز لشيء آخر وكذلك القلب، وما نستطيع قوله إنّ الرأس مكان للضجيج كما أسلفنا آنفا، وفي جملة (رأسي يكاد ينفجر) مقصود بالانفجار كثرة التفكير المتوالد، فكل فكرة تدخل الرأس تستلزم حتمية التفكير، وقابلية استقبالها سواء كانت خيرا أو شرًا، بخلاف القلب الذي يزن الأشياء بميزان القلب الصافي ثم بعدها يقرر الرفض أو القبول.

وحول احتمال طبخ الفكرة في رؤوسنا على نار العاطفة - التي طرحتها المحاورِة- يقول الباحث إنّ الذي يستطيع مراقبة أفكاره سيعرف مآلات أحواله؛ لأنّ الفطرة لا تأتي إلا من تولد إشارة نسميها الخاطرة. وقد قسّمها العرفانيّون إلى ثلاثة: خاطرة نفسانية، خاطرة شيطانية، خاطرة رحمانية؛ فالنفسانية منبعها النفس، وترتبط بحاجاتها الإنسانية كالأكل والزواج. والشيطانية هي ما خالفت الفطرة السويّة والشرع القويم كالظلم واقتراف المُحرمات وخلافه. أمّا الرحمانية فمتعلقة بالعبادات وكريم الأفعال؛ لذلك أهل الخواطر ولئلا تتحول خواطرهم إلى فكرة فإنّهم يراقبونها من على البُعد؛ فالعدو يُتقصى من بعيد قبل أن يدخل الحدود، وتساعد هذه المراقبة على تلافي الوقوع في براثن الممنوع والمنهي وبتر الخواطر الشيطانية في منشئها قبل أن يمتد السّم إلى بقية الأعضاء كما يفعل النطاسي الحاذق حين يبتر موضع الداء قبل أن يُفسِد بخبثه ما سلم من الجسد.

يرى الباحث بدر الدين أبو البراء أنّ ابن عطاء الله قصد من قوله: "لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبا ليأسك، فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك لا في ما تختار لنفسك وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد) عطاء القلب وما يرد عليه؛ ولاستقراء الحكمة أكثر يقول: دعونا نفترض أنّ الناس يفهمون كلمة العطاء بالمعنى المادي والدنيوي بخلاف فهم السكندري؛ فبناء على هذا الافتراض الحكمة تقول إنّه يحدث أن يتسلل الإحباط إلينا أحيانا عندما نطلب من ربنا عطاء فيتأخر، أو نظن أنّ الدعاء لم يُستجب ولن يتحقق العطاء؛  ولكن نحن نجهل أنّ ليس كل سؤال يُجاب كما وكيفما نريد، وربما يستجيب القدير لدعائك وطلبك في مكان ما أو موقف ما في حياتك لم تكن أبدا تتوقع فيه الفرج والتذليل؛ فبعض الناس لو كشف سبحانه وتعالى لهم عمّا يوليه إليهم لتقطّعت قلوبهم حبا في الله.

وللعرفاء كما يروي عنهم أبو البراء كلام جميل في هذا الجانب حيث يقولون: "طالما أطلق الله لسانك بالسؤال فهذه إشارة إلى أنّه يريد أن يعطيك" لاسيما أنّ هناك من لا يسأل أصلا، فطالما ألهمنا الله السؤال، فهذه إشارة ربانية إلى العطاء والنوال، وليوقن الذي يتضجر من تأخر العطاء والاستجابة تماماً أنّ الله لو لم يُرِد اعطاءه لما ألهمه السؤال البتة.. نعم ربما تتأخر الإجابة الربانية لأنّه سبحانه وتعالى يعلم أنّ ما تسأل أنت عنه سيُجاب عنه في مكان آخر، وهو العليم الخبير صاحب العلم الشامل والكامل، وحتى نقرب المسألة للأذهان أكثر لنفترض أنّ أحدًا ما سأل ربه سيارة بمواصفات محددة، ولنفترض أيضاً لو في الأزل كُشفت له الحجب بأنه سينال السيارة ولكن هذه السيارة ستتهشم في حادث مروّع في منطقة كذا يوم كذا؛ فهل في هذه الحالة سيبقى على رغبته في امتلاك السيّارة؟ بالطبع لا، ولذلك عندما تسأل الله سبحانه وتعالى عطاء ماديًا ويصرف الله عنك السؤال بتأخر الإجابة فاعلم أنّ الله يعلم أنّ السؤال كان فيه ضرر واقع عليك ولكن الله آخّر الإجابة إلى مكان ووقت آخر بتقديره وعلمه.

وتشد صاحبة البرنامج انتباه المستمعين لمفردة "الإلحاح" كونها لفظ مكمل لمفردة "العطاء"؛ ليجسر الباحث المسافة بين اللفظين بسببية لطيفة وهي أنّ "الإلحاح مدعاة للإجابة"، وأنّ أحدهم عوتب بأنّه يلح على الله في الدعاء فرد عليهم بأنّ "التطفّل على باب الله واجب". ويحذّرنا ابن عطاء الله كما يشرح الباحث من الركون لليأس المصاحب لطول أمد استجابة الدعاء مع الإلحاح؛ لأنّ اليأس قاطع لطريق الإجابة، ويجب اليقين بالإجابة في أي لحظة، فالله المتعال يقول عن نفسه في مسألة الظن به: "أنا عند ظن عبدي بي إن ظنّ بي خيرًا فله، وإن ظنّ شرًا فله". وأي قضية ألهمت فيها الدعاء يجب أن تعلم أنّ الله يريد أن يعطيك هذا الذي وُفقت في السؤال عنه. وكأنّ الحكمة العطائية تريد أن تقول لك "لا تجعل اليأس يفسد عليك ما ترجوه من عطاء الله سبحانه وتعالى" سواء كان هذا العطاء دنيويا أم أخرويا، فالله ضمن لك الإجابة؛ ولكن ما هو غير المضمون؟ هو التوفيق في السؤال والإلحاح على الله. ربما يرى البعض أنّ الدعاء يسير وسهلٌ، نعم هذ صحيح؛ إلا أنّ الصعوبة تكمن في الإلحاح وتكرار السؤال باستمرار متى وأينما؛ وهو من إشارات الاستجابة بشرط عدم دخول اليأس بينك وبين ربك؛ لأن اليأس يجعلك خارج دائرة الاستجابة والقبول؛ وطالما أنّ الله هو المجيب القريب الذي قال: "ادعوني استجب لكم"، "... فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعانِ) فقد توفرت كل شروط الإجابة، وأعلم أنّ تأخر الإجابة لحكمة يعلمها الخالق عز وجل.

إنّ الله المتعال عندما يصطفيك ويلهمك السؤال والإلحاح فهذا اختيار رباني لأنّ غيرك لا يسأل الله ولا يخطر على باله ذلك ولا يُلهم السؤال حتى؛ فهناك من يسأل ويكسل عن الإلحاح في الدعاء، وآخر يسأل وييأس؛ ولكن أن تصل مرحلة أن تسأل الله تعالى وتلح وتزاحم على بابه دون أن تكون يائسا منه فهذا مقام عالٍ؛ علمًا بأّن الإلحاح بالدعاء هو طرق باستمرار وتطفل على باب الله حتى يجد المرء حاجته، فإن كانت الحاجة من حوائج الدنيا فليكن منتبها لها، وإن كانت حاجة من حوائج القلب فليكن مطمئنا إلى بلوغها بقلبه.. من القلب وإلى القلب.

mohamed102008@windowslive.com