قراءات في الأدب الصهيوني المعاصر:

تطويع العلوم لخدمة الصهيونيّة.."أراضٍ للتنزّه" نموذجًا (3)

أمين دراوشة – أديب وناقد - رام الله – فلسطين


في الحلقة السابقة تحدثنا عن "الجيش في الوعي الإسرائيلي" في رواية "أراضٍ للتنزّه". للكاتب الإسرائيليّ "عوز شيلاح" فأغلب كُتّاب إسرائيل من خريجي الجيش الإسرائيلي، بمن فيهم شيلاح نفسه الذي خدم كمذيع في إذاعة الجيش الإسرائيلي، لذلك يعرفون مشاكله وأمراضه. والدخول إلى الجيش لا ينعكس إيجابا على تصرفات الملتحقين به. وقد اهتمّ الكاتب في روايته "أراضٍ للتنزّه" المكتوبة في شكل قصص  قصيرة أو شذرات بتجربة الجيش الإسرائيلي.. وفي هذه الحلقة سنرى كيف تتم عملية (تطويع العلوم) في تزييف الوعي لخدمة الأهداف الصهيونية فخذ مثلا: شذرة (أن تكون أولا)، التي يشي عنوانها بمضمونها، فالحركة الصهيونية استندت في دعواها للسيطرة على الأرض الفلسطينية، إلى أنه لا يوجد شعب فلسطينيّ في فلسطين، فهي أرض بكر لم يطأها أحد. لذلك عندما يقوم طلاب مدرسة أساسية برحلة إلى أرض مليئة بأشجار الصنوبر، ويلتقون بالأشجار، يشعرون بأنه "لم يكن أحد قد جمعها قبلنا" ـ (ص17). هنا يدور الحديث عما يدرسه الأطفال في المدارس الإسرائيلية: اليهود هم أول من وطئ أرض فلسطين الخالية، فهي ملكهم في الماضي والحاضر والمستقبل.
وينقلنا المؤلف في شذرة (تأمل) إلى نقد المؤسسات التعليمية الإسرائيلية العليا، ويقول إنه حتى مبنى الجامعة العبرية صمّم ليحجب رؤية الحقيقة. ويقول على لسان البطلة: "كانت خمسة من الحيطان التي شكلت الصف الثماني (الشكل) ضئيلة للغاية"، فالتصميم كان مقصودا "لحجب أيّ مشهد للخارج، ولتضييق الأفق، ولإبقاء الجميع مركزين في تأملاتهم الخاصة وجاهلين بأي شيء مهم". وفي الخارج تسمع طلقات رصاص، "كان جنودنا يحصدون المتظاهرين" ـ (ص25).
أما في شذرة (خائن)، فنرى  تطويع العلم لخدمة الصهيونية: فقد ألغيت محاضرة لأحد علماء النبات، لأنه اكتشف بأم عينيه "قطاعات طويلة من الحنّون الأبيض، والأزرق، والبنفسجي تخللت كالعروق سمك قطاعات الحنّون الأحمر" ـ (ص12). هذا الاكتشاف الذي نشره في مجلة علمية، تسبب في إحالته إلى التحقيق من قبل جمعية علماء النبات، وإدانته كخائن، وفصله من الجمعية، لأنه خالف ما اتفق عليه علماء الجمعية، فالذي يخالف الإجماع في إسرائيل مصيره الطرد والتنكيل، ما يذكّرنا بمنع مسرحية (ملكة الحمّام) للكاتب الإسرائيلي حانوخ ليفين (1943-1999) من العرض أواخر ستينيات القرن العشرين، لأنها ناقشت ما لا يسمح به، ففيها "يجمع لفين في وقت واحد بين الليبرالية المزيفة للإسرائيليين وبين العدوانية الاحتلاليّة، التسيدية والاستعلائية الأصلية التي يتصفون بها". (ليفي، إعداد وتقديم ناطور، 2006، ص72)
وفي شذرة (تنوّع) بمدلولاتها العميقة، يتحدث عالم الطبيعة عن أن الحشرات المضيئة لم تنقرض، ولا يوجد مؤشّر حقيقيّ على انقراضها. وعلى الرغم من أن موطنها الطبيعي اختفى وزال عن الوجود، إلا أنها ما زالت موجودة ولم تتناقص "لأنّها معروفة بقدرتها على مقاومة الظروف الطارئة والقدرة على استعادة حيويتها" ـ (ص27)، بل إنها قد تنمو في الحدائق والمتنزهات. والحديث هنا عن محاولات الحركة الصهيونية القضاء على الشعب الأصليّ الذي لا فرق بينه وبين الحيوانات، في رأيها. لكن الشعب الفلسطينيّ موجود، رغم كل الممارسات العنصرية، والعنف حدّ ارتكاب المجازر البشعة حتى في القرن 21، وهو يقاوم ببسالة محاولات طمسه وشطبه من التاريخ، ولا ينكر وجود الشعب الفلسطيني إلا شخص غير سوي وبحاجة إلى مصحة نفسية.
وينتقل التلوّث في المجتمع الإسرائيلي إلى الجميع، ففي شذرة (فراغ) يحدثنا الكاتب عن الشاعر الذي ارتبط "بميليشيا الروّاد التي بنت مجدها على الهجمات العنيفة على البريطانيين حالها حال القتال الشرس ضدّ السكان المحليين" ـ (ص21). وقد طلب زملاء الشاعر منه اختراع كلمات بالعبرية لقطع السلاح الانكليزية، ونجح في عمله حتى أنه سمّى ابنته "كافينيت" التي تعني منظار التصويب. وتكون المفارقة عندما يسأله أحدهم: هل أنت شاعر؟ فيجيب: لا.
وحتى المثقفين في هذا المجتمع لا يقلّون انتهازية وجشعا عن غيرهم، ففي شذرة (أصلي) ينتقد الكاتب سيطرة المثقفين الإسرائيليين على بيوت الشعب الفلسطيني المطرود، فأستاذ الفلسفة يسكن بيتا قديما وكبيراً في البقعة التي طرد سكانها وشرّدوا، والبيت يشبه كلّ البيوت القديمة في القدس: "جدران حجريّة، وسقوف مقنطرة، وشجرة جوز أصلية لا تزال مثمرة، وبئر" ماء يحمي الحديقة من العطش. وأستاذ الفلسفة هذا مشهور ويعلو زملاءه كعبا في تخصصه، وفي صيف 1967، عمل على بناء "سور حجريّ عالٍ حول البيت والحديقة، ليمنع أصحاب البيت الأصليين من الزيارة" ـ (ص20).

تعليق عبر الفيس بوك