نظافة العقول أوْلَى وأهم

عبدالله العجمي

إنَّ من يتناول مِنا سِيَر الرُّسل والأنبياء -عليهم وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام- ويدرس قصص حياتهم ويطّلع على ملامح شخصياتهم، وكيف أنهم كانوا يعيشون بين الناس كأحدهم، يأكلون ما يأكلونه، ويشربون ما يشربون، فاتحين قنوات تواصل مع هؤلاء العامة يُنصِتون لآلامهم، ويحاولون جهدهم إضفاء البسمة على قلوب الناس دون أن يُشعروهم بأنهم بحال أفضل من حالهم أو في شأن أعلى من شأنهم.. سيُدرك أن شخصياتهم العُظمى لا يمكن تصنيفها ضمن جداول الطبقيّة التي وضعها الناس لتصنيف كُبرائهم وساداتهم، وأن إنسانيتهم واحتضانهم لمن حولهم ورأفتهم بهم هي سر من أسرار نبوتهم، وسوف يعِي أن هذه الشخصيات الراقية في تعاملها قد اعتلت سُلم العظمة بـِ"أخلاقها"، وقد تجسدت هذه الأخلاق في تعاملها مع مَنْ حولها.. وهم يحاولون بما يستطيعون من جهد كنس الكثير من الشوائب العالقة على العقول واستبدالها بمبادئ إنسانية ومفاهيم سامية؛ فهم يُدركون أن نظافة العقل والفكر هي أرقى وأهم أنواع النظافة.

تنقل لنا كُتُب السيرة النبوية الشريفة أن رجلاً أتى النبي الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم- فلما وقف بين يديه ارتعد لِما رآه من هيبته، فقال له الرسول الكريم: "هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد"، والقديد كما ورد في معناه هو اللحم المجفف.. ولهذه الحادثة دلالات عدة، ودروس جمة، فالنبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- لم ير ما رآه ذلك الرجل من هيبته، لكنه تدارك الأمر وتفطن له، فابتدر يطمئن ذلك الرجل لكيلا تكون هذه النظرة حاجباً بينهما أو فاصلاً يفصلهما عن إحساسهما الإنساني ببعضهما، وكان هذا الجواب في الحقيقة عبارة عن تنظيفٍ لِعقل ذلك الرجل الماثل أمامه، ولكن بطريقة ذكية، وكأنه كان يُعطي من حوله درساً بضرورة إزالة هذه الشوائب من فِكرهم الجاهلي وألا يجعلوها حِجاباً بينهم وبين كُبرائِهِم، بل أراد منهم التفاعل مع الكل بكل أريحية وانفتاح.. إنه السمو في الأخلاق في ذروة سنامه، والدقة في اختيار منهج تعليمي قل نظيره، وإن الأخلاق -ولكي نستطيع أن نسمو بها إلى مدارج الكمال- ينبغي أن تعبُر من خلال مراحل عدة أهمها تصفية الفِكر من مثل هذه المفاهيم الخاطئة وتمرين العقل على ترتيب الأولويات.

لعل الكثير منا ساءته محتويات الصور التي انتشرت على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أبرزت وأظهرت الكم الهائل من المخلفات التي تركها بعض حجاج بيت الله في تلك الأماكن المقدسة، وما دار حولها من نقاش واسع في تلك المنصات التفاعلية، فانساق الكثير منا في التحليل والتأويل وسَوق التبريرات وتوزيع التهم، ولكن وبغض النظر عن كل تلك التحليلات وددت أن تكون لنا جميعنا وقفة أمام هذا المنظر الذي حدث في "أيامٍ حُرُمٍ" كهذه وفي "مشعر حرام" كهذا.. وفي وقت حرِج ينتظر منا ديننا أن نكون دعاة له بأخلاقنا وتصرفاتنا. وكلنا نعلم أن رسولنا الكريم -وكما ورد- قد اعتبر أن النظافة وما تتضمنه من قِيَم وغايات هي من صلب وصميم الإيمان.. ولعل البعض منا عندما اتخذ موقفاً من تلك المظاهر سواءً كان مبرِّراً أو لائماً أو مُلتمساً العذر نسي في خضم كل ذلك أن الأهم من نظافة تلك الأماكن هو نظافة بعض العقول.

فالكثير منا عندما يسمع كلمة "النظافة" يتبادر إلى ذهنه أنها تنحصر في النظافة المتعارف عليها كنظافة البيت والشارع والجسد والملبس، وغاب عن ذهنه أن الفكر والعقل أيضاً يحتاج إلى نظافة، فتلوث عقليات البعض أشد خطراً على الأمة من نظافة شوارعها.. عندما تجد أن القلوب تسكنها الضغينة والحقد تجاه الغير، وتُحركها الأنانية في إطارها الضيق، وتتلاقفها الأهواء المنحرفة المتشبعة بالغل، فإنها حتماً تحتاج إلى نظافة من نوع خاص.. لتنقلها من ضيق أفق الإقصاء للغير إلى سعة مشاعر الحب وتقبل الآخر والمودة للآخرين، فلا يكفي للإنسان أن يهتم بنظافة ملبسه ومسكنه، بل يحتاج قَبلاً إلى تنظيف عقله وقلبه من بعض الشوائب، حتى تُحقق النظافة ما تحمله من قيم وتهيمن على كل جوانب الحياة.

إنَّ الحاجة -اليوم- مُلحَّة وبقوة إلى ترميم بعض العقول ونظافة بعض القلوب والسلوكيات والتصرفات، تلك السلوكيات التي تحاول أن تحرف مسار الحياة لتحرم الغير من إبراز طاقاته وإسهاماته، نحتاج إلى تنظيف فِعلي لنستشعر قيمة النظافة في حقيقتها، النظافة التي ستعيد الكثير من الأمور إلى مساراتها الصحيحة، فحتما بعد تنظيف العقول سينعكس ذلك تدريجياً على ما حولنا..  فبنظافة العقول سنُبعد أنفسنا حتماً عن شوائب العصبية الطائفية التي هي أساس خراب الأوطان، وإن أهم خطوة في هذا الطريق هو استشعار هذه الخطورة، لتتكون لدينا -بعد ذلك- حصانة فكرية ضد الكثير من مستنقعات تلك الأفكار السامة، وستوفر علينا الكثير الكثير مما نخشاه على أجيالنا القادمة، وليس ذلك بالأمر السهل لكنه أيضا ليس بالمستحيل، كل ذلك بالإرادة والوعي والاحساس بالمسؤولية كل حسب موقعه، فلو امتلأت جميع المواقع بسلال المهملات دون وعي العقول بضرورة وأهمية تنظيف المكان فلن نحصد نتيجة، لذا كان من الأهمية بمكان أن نبدأ بنظافة العقول قبل الأماكن.. يقول برنارد شو: "ما أعظم النظافة حينما تكون في عقولنا".

* رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي