الفساد والترهُّل

 

 

عبدالله العجمي

لو أخذنا نظرة فاحصة للحكومات المتوالية عبر التاريخ، والتي صار بعضها أثراً بعد عَين، لوجدنا أن الخلل في أدائها الحكومي وترهّل خدماتها كان المسمار الأول الذي دقّ نعش اندثارها، قديماً مثلاً.. وبالرغم من أن الدولة العباسية انشغلت في بدايتها بمحاولات فرض سيطرتها على الأقطار الواقعة تحتها وإحكام قبضتها عليها، إلا أنَّها وفي المرحلة الثانية من تاريخها، أي تحديداً في عهد المتوكِّل العباسي الذي استمر حكمه قرابة الخمسة عشر عاماً؛ فقد تنامى الفساد في عهده وبرزت أوجه التداخل والتوغّل بين رجال الدولة والتجار؛ مما أثرى الساسة وجعلهم ملاكاً لأراضٍ ومساحات كبرى بسبب الفساد الذي استشرى في جنبات أروقة الحكم حينها؛ حيث ساق ذلك إلى نشأة تمردات كبرى ضدها، تطورت لاحقاً إلى قيام ثورات كثورتي الزنج والقرامطة، لتتوالى بقية الثورات التي أضعفتها ثم أسقطتها لاحقاً على أيدي الديلم والترك كما تذكر كتب التاريخ.

وبنظرة ناقدة ومتجرِّدة.. يرى الكثير من محللي التاريخ أن أحد أهم أسباب الفساد الذي أصاب الجهاز الإداري بالدولة العباسية، هو بعدما لجأت إلى منح أراضٍ كبيرة وواسعة لشراء ولاء الجنود الترك عقِب ثورة بابك الخرمي، ولمَّا كان الترك مشهورين آنذاك بالرعي فيرى المحللون أن قلة خبرتهم في الزراعة نتج عنه ضمور كبير وتراجع حاد للمنتج الزراعي والذي أثّر تأثيراً كبيراً في اضمحلال الزراعة؛ وبالتالي انخفاض مدخولات الخزينة عموماً، وانتهى المطاف إلى إضعاف سطوة الدولة وقدراتها الرقابية، كل ذلك كان نتاجاً للتداخل المُهلِك بين السياسة والتجارة، أي السياسة والاقتصاد حسب اصطلاحاتنا الحالية.

مثال آخر معاصر، نجده في تفكّك وانهيار الاتحاد السوفيتي، والذي نشأ مرتكِزاً على تجربة ثورية أخذت على عاتقها مواجهة فساد النظام الرأسمالي، لكن وفي مرحلة ما بعد وفاة ستالين، قفز بعض كبار الموظفين على مبادئ الثورة وتجاوزوها، مما حدا بهم إلى انتهاز كل فرصة سانحة لصالح زيادة ثرواتهم على حساب الترهّل الحكومي آنذاك، كل ذلك وغيره من العوامل أدت إلى تدهور الاقتصاد ثم أضعف سيطرة الحكومة المركزية وانهيار الاتحاد السوفيتي لاحقاً في نهاية 1991م.

هذه الأمثلة وغيرها تقودنا إلى استنتاج واضح: أنه عندما يستشري الفساد بأنواعه، ليتحوّل إلى روتين يومي، ويستصيغه العامَّة؛ بحيث لا يُلتفَت إليه، فتتداخل التناقضات وتطفو التعقيدات وتسود لغة الغموض على إجراءات أي حكومة كانت، ستسبب ضغوطاً آنيّة ولحظيّة على حياة المواطنين، وانعكاسات أخطر على أدائها وترهّلها على المدى البعيد، ليبقى التساؤل المطروح: كيف يمكن محاربة الفساد؟ وما هي التجارب الناجحة في هذا الشأن؟

نعم.. لو تناولنا التجارب الماليزية والسنغافورية والصينية سنجدها أقرب التجارب لدينا، صحيح أنه لا يمكن استنساخها، لخصوصية كل تجربة وطبيعة دولتها وتركيبتها السكانية، إلا أنه على أقل تقدير يمكن الاستفادة منهما وتشذيبها بما يتوافق مع طبيعة أي دولة، آخذين في الحسبان التراث والتاريخ والثقافة لهذه الدولة.

ولمحاربة الفساد في أيّ دولة كانت، ينبغي أن يرتكز على أربعة أركان رئيسية:

1- تأسيس هيئة عليا ومستقلة لمكافحة الفساد ومعالجة الترهّل الحكومي.

2- تفعيل قانون: "من أين لك هذا؟" بدون أي استثناءات.

3- تحسين رواتب الموظفين لغلق باب الرشوة.

4- تغيير إستراتيجية الإعلام بأن يتم تحويله من ناقل إلى صانع للأخبار وشريك فاعل في هذه الحملة المهمة؛ فيكون إعلاماً استقصائياً، وإصلاحياً، وشريكا فاعلاً في الكشف عن مكامن الفساد وفضح الفاسدين.

تلك نفسها الأركان التي ارتكزت عليها التجربة السنغافورية والتي استطاعت أن تكافح الفساد من خلالها، ونجحت خلال فترة تعتبر قصيرة جداً إذا ما نظرنا للإنجازات التي تحققت، وهي خطوات في متناول اليد وليست صعبة التطبيق في أي دولة إذا ما توافرت الإرادة الفعلية لذلك.