"كورونا" ونظرية المؤامرة

 

 

عبدالله العجمي

إنَّ اللجوء إلى وصف أي ظاهرة أو حالة ووسمها بِسِمَة "المؤامرة" دون أدلة علمية قاطعة، هو مسألة حسَّاسة من ناحية ومعقّدة من ناحية أخرى؛ حسَّاسة لأنها تقود إلى تسطيح منحنى الثقافة، وربما إخماد وهَج البحث العلمي والتحليل العقلاني، ومُعقَّدة لأنها تفترش أرضية من الوعي المُخترَق، وتلتحِف بسماء من المفاهيم المشوّهة، وتستنشق هواءها من نفسيات انهزامية يحركها السلوك الانفعالي.

ولكي يجزم أيٌّ منا أنَّ ظاهرة ما هي مُؤامرة، أو لا يتوجَّب عليه المرور بخطوات عديدة لا يتأتّى للفرد الإتيان بها، بل بعمليات استخباراتية تعتمد عليها الحكومات لاتخاذ قراراتها وجاهزيتها واستعداداتها، انطلاقاً من المُدخلات التي تعتمد عليها الأجهزة الاستخبارية في جمع المعلومات كالمصدر البشري أو الإلكتروني، والتي تحتاج -كما هو صميم عملها- إلى غربلة تلك المعلومات ثمَّ تفكيكها وتمحيصها، وصولاً لمُخرجات يطلق عليها استنتاجات.. وكمثال لتبسيط الأمر: فإن أيَّ عملية تنصُّت على شخص ما لن تُجدي نفعاً وحدها -رغم أهميتها- ما لم تُعرض على خبير أو محلّل يقرّر أهمية تلك المعلومات من عدمها، وهل هي كافية لاتخاذ قرار حيال المُتجسس عليه أم لا؟ بدءاً من تحويل المعلومة المُستقاة إلى معرفة، وانتهاءً بتحويلها إلى قرار يُتّخذ.. وهي خطوات حتميَّة تتبعها أجهزة الاستخبارات استناداً لقاعدة أن: "امتلاك المعلومة هو امتلاك لمقوّمات القوّة واتخاذ القرار".. وقد اختصرها المولى عزّ وجل في كلمة واحدة فقط بالآية 6 من سورة الحجرات: "فتبيَّنوا".

صحيح أنَّه ينبغي على المؤمن أنْ يكون كيِّسا فطِنا، حذِرا، لكن لا أن تصل به الحال لتشمله آية: "أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"؛ لذا وكنتاج للشذوذ عن هذه القاعدة، فقد يجد أيٌّ منا نفسه مُقحماً -لا إراديًّا- في نقاش أفكار لا يستسيغها العقل، ولا يمكن لأي نصٍّ أن يتحملها أو يتقبلها، وربما تحول هذا النقاش عاجلاً أو آجلاً إلى محاكمة لمُتبنّي هذه الأفكار ومروّجها، بل وسينتهي المطاف في أحيان كثيرة إلى أنْ نُكبّل واقعه الاجتماعي والثقافي والفكري ونضعه في نفس قفص الاتهام.. وسننشغل بمحاولات لتفنيد أفكار لا تحتاج إلى نقاش أصلاً، فضلاً عن تخصيص وقتٍ وجهدٍ لنفيها ونسفها، في حين أننا يجب أن ننشغل بإثراء الساحة بنظريات وأفكار جديدة تعود بالنفع على مجتمعاتنا.. والمعضلة الأكبر هي أنَّ مثل هذا النقاش يمكن أن يقود إلى إرباك الكثير من ذوي الثقافة المحدودة.. والأخطر من ذلك أن يصل الأمر إلى التشكيك بالجهود الظاهرة لاحتواء أي أزمة بالمجتمع الذي نعيشه.. وتتداخل في توصيف هذه الحالة إستراتيجيتان من ضمن الإستراتيجيات العشر في خداع الجماهير التي أشار إليها الفيلسوف نعوم تشومسكي: "إستراتيجية الإلهاء"، و"إستراتيجية اللجوء إلى العاطفة بدل التفكير"؛ إذ تقوم الأولى على "صرف نظر الرأي العام عن مشاكل هامة تمسُّ حياتهم، وإبقاء الجماهير مشغولة ومأسورة بمواضيع دون فائدة حقيقية"، بينما تُبنى الثانية على أساس: "اللجوء إلى العاطفة كتقنيّة كلاسيكية لسد التحليل العقلاني؛ وبالتالي الحسّ النقدي والسماح بفتح باب الولوج إلى اللاوعي".

نعُود إلى موضوع المقال ألا وهو وباء كورونا المستجد (كوفيد 19)، والذي لم يكن أول وباء أو "طاعون" مرَّ على البشرية، والتاريخ خير شاهد على ذلك؛ ففي بداية الأمر ظهرت نظرية المؤامرة في الطريقة الغامضة لنشأته، وأنه ربما يكون مُصنَّعا ومُعَدّا ليُستخدم كسلاح بيولوجي، رغم أن علماء البيولوجيا الذين وقفوا على سلسلة الحمض النووي لهذا الفيروس أقروا بأنه ناتج عن الاختلاط بحيوانات أخرى، وأن طفرته كانت تحوُّلًا طبيعيًّا، ولا يوجد ما يشير إلى أنه معدَّل، لكنه كحال بقية الفيروسات، فإنه يتموضع ويتأقلم ويتغيّر ليبقى على قيد الحياة حاله كحال بقية الكائنات الحية على هذا الكوكب.

ثمَّ ظهرت نظرية بخصوص اللقاحات (التطعيمات)، وأنها مُؤامرة أخرى لامتصاص ميزانيات واستنزاف اقتصاد الدول، بينما هي تعتبر من أهم اكتشافات البشرية، وقد أنقذت -أصحاب هذه النظرية قبل غيرهم من ملايين البشر- من أمراض كثيرة كالدرن وشلل الأطفال والتهابات الكبد والحصبة...وغيرها.

ثمَّ تكونت نظريات أخرى عديدة يطُول شرحها، أخطرها تلك القائلة بأنَّ الفيروس غير موجود أساساً، وأنه لا حاجة لاتباع إجراءات الوقاية منه.. وساعدت في انتشارها كثرة الشائعات التي انتشرت بوتيرة متسارعة.

ختاماً.. هناك الكثير من الآثار الظاهرة التي لا يمكن نكرانها والتي تنسف تلك النظريات واحدة تلو الأخرى، ويستطيع أيٌّ منا التحقق من صحة ما يُنشر من إحصائيات بخصوص هذه "الجائحة"، واستشعار أهمية ما يُتخذ من إجراءات للتخفيف من حدَّة آثاره.. ولكي لا أكون ذا نظرة أحادية بالموضوع، فإنني لا أنكر أنه ربما تكون هنالك مؤامرات، لا أحد ينكر ذلك، ولكن لا يمكننا كأفراد بحال من الأحوال إثبات صحتها.. لذا؛ فإن المبالغة في طرح هذه النظريات والجزم بها يعتبر وهنا وضعفا ونظرة ما ورائية، وفرضاً ولو سلَّمنا جدلاً بصحة نظرية المؤامرة، فإنَّ الواقع يحتِّم علينا عدم إلقاء أنفسنا في التهلكة لعدم اتباعنا طرق الوقاية، بل يجب علينا الأخذ بأسباب النجاة، لنخرج منها بأقل الخسائر.

اللهم بلَّغت.. اللهم فاشهد.