الحسين.. عِبرة وعَبرة

 

عبدالله العجمي

يقول عباس محمود العقّاد متحدثاً عن معركة كربلاء في كتابه "أبو الشّهداء الحسين بن علي": "في ماضي الشرق وحاضره كثير من الحركات التاريخية التي وقع الصدام فيها بين الأريحيّة والمنفعة على أكثر من غرض واحد. لكننا لا نحسبنا مُهتدين إلى نموذج لهذا الصدام أوضح في المبادئ، وأهدى إلى النتائج، وأبين عن خصائص المزاجين معاً من النموذج الذي عرضه لنا التاريخ في النزاع بين الطالبيّين والأمويّين، ولا سيما النزاع بينهما على عهد الحسين بن علي، ويزيد بن معاوية".

وعند البحث عن دراسات أكاديمية أو فكرية أخرى تناولت هذه الملحمة وجدت عدة دراسات خجولة، تعاني في الغالب من تباين وارتباك واضح في وجهات النظر حول هذه المأساة، فأغلب من طرح أو تناول هذه المأساة غلبت عليه أيديولوجيته الفكرية التي ينتمي إليها، وانطلق من لغة هامشية وشتائمية ركز فيها على أمور مُختلف عليها بدلا من أن يطرحها من منظور أكاديمي متجرّد، والبعض الآخر مرّ عليها مرور الكرام وتجنب الوقوف عندها، ولو تم تناولها بدراسات موضوعية متجرّدة وبعيدة عن الإطار الطائفي والمذهبي، لخرج الكثير من الباحثين بكمٍّ هائل من الاستنتاجات الأدبية والفكرية والنقدية والوجدانية التي ستُسهم إلى حدٍّ بعيد في تقريب وجهات النظر بين طوائف المسلمين جميعهم؛ لأنَّه عند دراسة أية شخصيات أو أفكار أو نصوص بعدّة مناهج -أدبية أو نقدية أو فكرية- وبإطار أكاديمي بحثيّ وبرؤية متجرّدة من أية أيديولوجية، كل ذلك سيؤدي حتماً لتحولها لموضوع إنساني عام فضلاً عن كونه إسلاميًّا أو مذهبيًّا، ولوجد الجميع حصته ومبتغاه، لمِا صاحبها من نصوص أدبية وشعرية وفكرية وجمالية ووجدانية. في حين أننا نرى الكثير من الأطروحات والدراسات الأكاديمية العربية المعاصرة قد استوقفتها أساطير اليونان والرومان وحضارات السند والهند وبقية الحضارات الشرقية القديمة، لكن عند الاقتراب من معركة كربلاء يتحاشاها البعض وينكف البعض الآخر عن دراستها رغم أن الكثير من كتب السِّيَر صنفتها بأنها أهم حدث تاريخي إسلامي ومفصلي ومأساوي.

البعض صنّف موضوع استذكارها سنوياً بأنه شذوذ عن طريق الانسانية ووصفه البعض بالانحراف عن خط الحضارة.. بينما جميعنا نرى أنه وبرغم اختلاف توجهات البشر فهم يحتفلون في كل عام بمناسبة معينة بغضّ النظر عن بُعدها، أكان وطنيًّا، أم، قوميًّا، أم حتى دينيًّا.. وبرغم تباين سبب تلك المناسبة، والتي ربما قد مضى على حدوثها مئات السنين، لكن أمر استذكارها نابع من صميم الوجدان الإنساني والحضاري للبشر.. وحاضرنا الذي نعيشه الآن لا يمكن بحال من الأحوال فصله عن تاريخنا، لأن الإنسان وعلى مرّ السنين لا ينفكّ عن محاولاته المستمرة لتأكيد نفسه، وتأصيل المرحلة التي يعيشها، ففي المرحلة التي يرسم مسار خطواته في الاتجاهات التي يبتغي الوصول إليها تقدّماً وتطوراً ومواكبة للحاضر؛ فإنه لا يزال يستشعر تلك النقاط المضيئة في التاريخ ويستحضرها ويحييها ليأخذ منها العبرة مع يقينه أن في التاريخ دروسٌ مرتبطة بالحياة كلها، فقد يتطلّب الأمر في كثير من الأحيان عناصر حيوية لا يمتلكها في حاضره فيستدعي الأمر أن يستحضرها من خلال أحداث الماضي. وقد أشار القرآن الكريم لذلك في حديثه عن الوقائع التاريخية والقصص في قوله تعالى: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ" (يوسف:111)، فقد اعتبر القرآن أن الأحداث التاريخية والقصص دورها مهم في أخذ العِبَر والدروس التي يستخلصها ذوي العقول من الماضي لعيش الحاضر ومواكبة المستقبل.

ومن القصص والأحداث التي تردد صداها طوال هذه السنين، وكان لها أكثر من بُعد وعلى كل المستويات، هي قضية الإمام الحسين بن علي، وما جرى عليه في معركة كربلاء سنة 61 هـ، فمِن أهم أبعادها هو البعد الإنساني الذي جسّد القيم الإنسانية؛ إذ أخلص إلى الله كأفضل ما يكون الإخلاص، وانفتح عليه انفتاحاً واسعاً، وتعمّق في قيم الإسلام الحنيف تعمّقاً دلّت عليه مواقفه في تلك المعركة، ولا يوجد دليل على ذلك أوضح من أن هذه الملحمة وبرغم قصر وقتها، إلا أنها قد شقّت طريقها في قلوب الكثير من الأحرار، واستقى من قيمها ومبادئها الكثير من الثوّار على مرّ العصور.

هذا على المستوى القِيَمي وعلى مستوى المبادئ واستخلاص العِبر منها، أما من الناحية العاطفية والوجدانية فتكثر الاشكالات التي يطرحها البعض في موضوع إحياء ذكرى هذه الملحمة وتحوم أغلبها حول مسألة البكاء، والتي تكاد تكون مسألة مرتبطة بالجانب الإنساني والعاطفي، وأي إنسان لا محالة تستثيره وتُشجيه أية مأساة تقع على أي إنسان يحبه ويعزّه ويعظمه، ولعلّ أقرب مثال حيّ مرّ علينا هو مأساة رحيل السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- وقد شاهدنا بأعيننا انفجار الصغار بالبكاء عليه قبل انهيار الكبار.. ولا يزال الكثير منا تهمل أدمعه عند استذكاره رحمة الله عليه.

هكذا فُطِر الإنسان، ينفعل بمآسي التاريخ كما هو انفعاله بمآسي الحاضر؛ فكيف إذا كانت تلك المآسي تمثّلت فيها أبشع صور القسوة والمجازر الوحشية التي وقعت على آل بيت رسول الله في كربلاء؟!

ينبغي أن ننعتق من بُعدنا المذهبي ونسمو إلى بُعدنا الإسلامي فننفتح على الحسين حُباً ومودّة وامتثالا لـ: "قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى"، وننطلق من محبتنا لما يمثله من معنى وتجسيد للرسالة المحمدية، لينتهي بنا المطاف لنراه بعين العِبرة والعَبرة، وأن نذكره ونستشعر ما قدمه للإسلام واستشهد لأجله، ونذكره لما أحياه في قلوب الأحرار ونفوس المضطهدين، لتبقى ذكراه في النفوس وفي القلوب حية رغم استشهاده.