المصاهرة العربية الإسرائيلية

عبدالله العجمي

لعلَّ استفزازَ بعض العقول أحياناً يستطيع أن يُحرِّك مياهها الراكدة لإزالة الضبابية المحيطة بالقيم والمبادئ المُغيَّبة عن البعض، وإن ما يستفز عقول العرب والمسلمين في المرحلة الراهنة هي محاولة تعويم قضيتهم الأولى: قضية "فلسطين"؛ لتطفو على الصفحات الأولى لبعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية بعدما ظلت ولفترة ليست باليسيرة تورِد ما يتعلق بتلك الأراضي المُغتصبة وما يحدث فيها كخبرٍ عابرٍ ليس ذا أهمية، وكأننا انتُشِلنا من سفح وادٍ تحيط به البراكين الخامدة لنعود إلى نفس السفح ولكن في أوج ثورة تلك البراكين ونشاطها.

إنَّ ما مرَّ علينا من مراحل زمنية عايشنا فيها الربيع العربي وما تبعه من خريف جاء ليُعري ويُسقط ما بقي من أوراق التوت الذي تستر به بعضهم طوال فترة ربيعهم، ربما كانت مرحلة تضييع وقت لا أكثر، خاصة إذا أدركنا أننا استيقظنا لنكتشف أن القضية الأساس طوال هذه الفترة كانت مجمدة ومهمشة، ومع كل ما أحاط بالدول المحيطة بتلك القضية الأم من مشاكل داخلية اجترت مشاكل أكبر منها، ولكن دون السماح لهذه البراكين التي تفجرت في محيطها الاقتراب من هذه الخطوط الحُمر ولو من بعيد.. وكأنها خطة مدروسة ومُتقنة للإبقاء على تلك البراكين وهي في حالة اشتعال وثورة وكل بركان في نطاق دولته ودائرته المحيطة به، بحيث تنشغل هذه الدول وشعوبها بنفسها، فلا يُراد لهذه الدول التكامل ولا للشعوب التوحد في وجه القضية الكبرى والأساس "فلسطين".. بل يتم تمرير وتعويم قضية المصاهرة العربية الإسرائيلية بطريقة تُحقق مصالح إسرائيل من دون حصول العرب على شيء.

إنَّ ما جرى تنفيذه على مرِّ العقود الماضية من قتلٍ لروح الأمة في فِكرنا وحذف كل أدبياتها من ثقافتنا وكياننا، لأنه -وحسب الخطة- إذا ماتت الأمة في وجداننا، فلن يستشعر الواحد منا ما يجري على الآخر، لأن كل فردٍ منا سيكون مهتماً بكيانه وقضيته الشخصية دون النظر إلى قضية غيره واستشعار ما يحدث له، وهذا ما تم العمل عليه وجارٍ تنفيذه في بلداننا على جميع المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية أيضاً، ولعلَّ كل ما حدث ونراه يحدث يدل على كل ذلك، وقد بدأت هذه الخطة منذ مطلع القرن العشرين حينما بدأ العمل على إلغاء مُصطلح الأمة الإسلامية، لتتشعب بعدها إلى أمم تحمل مسميات أصغر؛ إذ استُحدِثت مصطلحات أيديولوجية أصغر تعتمد على الأعراق والقوميات كالأمة العربية والأمة الفارسية والأمة الكردية وما إلى ذلك، ثم وبعد أن نجحت هذه المرحلة من الخطة بدأت المرحلة التالية لتُخترع لنا مصطلحات جغرافية أدق كالأمة العراقية والأمة السورية والأمة المصرية وغيرها من الأمم، ثم بدأت عملية الدمج والخلط بين هذه المسميات وخلط أوراقها مع بعضها لتتداخل فيما بينها ويحصل الخلط والاشتباك بين أفرادها بطريقة يصعب بعدها فك اشتباكهم هذا، فأصبحت هذه المصطلحات تدمج فيها العرقيات مع الجغرافيا أحيانا كما حدث في كردستان بالعراق مثلاً، وتدرجت الخطة إلى تقليص نطاق هذه المسميات فلا شُغل لأمة بأخرى ولا شغل للآخرين بتلك الأمة، حتى وصلت الحالة بأن يُصبِح الواحد منا أمة في حد ذاته، وهذا ما تبرمجت عليه عقول الكثير منا، وتشربت به أفكار الكثير منا وصارت له أدبياته الخاصة، فصار الفرد منا يُفكر في مشاكله الشخصية بعيداً عن مشاكل الأمة، وأصبح يبحث عن إنجازاته الصغيرة في معزلٍ عن إنجازات أمته.

ولا نعلم عن المراحل المتبقية التي تنتظرنا من هذه الخطة، لأن التفتيت أصبح في مراحله الأخيرة، ولربما كانت المراحل القادمة أشد وطئاً علينا.. فماذا بعد تفتيت الدول؟! وماذا بعد تفتيت الشعوب؟! وماذا ينتظرنا بعدما تم تفتيت الأفراد؟! وأصبح التفتيت يلاحق كل الأماكن الصلبة، لكيلا يبقى ما يمكن أن يحافظ على توازنه وتماسكه لنستطيع التعلق به.. ومن جانب آخر دعونا ألا نغفل عن كون الظروف المريرة التي تمر بأمتنا والتي يُراد منها تقليص مصطلح الأمة وحرف مساراتها، هو مخاضٌ عسير لانفراج ربما أصبح وشيكاً.. إذاً فلندرس القضايا من خلال إنسانيتنا لا من خلال أنانيتنا.. ولست في صدد الدعوة إلى العُنف، لكنها معادلة بسيطة وعلينا ألا نغفل عنها لأن احتلال الأرض، يعني أن المحتل هو من فرض علينا مقاومته؛ لذا يجب علينا التفريق بين السلام والاستسلام.

وختاماً.. أودُّ القول لأولئك الذين يُنظرون لمسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولطالما سمعنا خلال الفترة القريبة الماضية من التبريرات والاستشرافات والتنظيرات ما يندى لها الجبين، أقول لكم أيها المنهزمون فكريا ونفسيا: عندما تتحدثون عن أمر كهذا، كونوا واقعيين في طرحكم، فأنتم تحاولون -عبثاً- قهر عقيدة راسخة لدى الغالبية العظمى من هذه الأمة، فلا تهرفوا بما لا تفقهون.

* رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي