"كُنتم خير أمَّة" (3)

عمَّار الغزالي

لمَّا قَدِم رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم- إلى المدينةِ المنوَّرة، كانَ الفسادُ المُجتمعيُّ قد بلغ مبلغه؛ وانطلتْ مَظَاهر سلبياته على كافة المعاملات؛ من كذبٍ وغشٍّ وتدليسٍ وخيانة للأمانات، ونكوصٍ عن العهود والمواثيق... إلخ؛ إلا أنَّ مَظْهرًا تجاريًّا يمسُّ في جانبٍ كبيرٍ منه "فقه المعاملات" استوجَب نزولَ جبريل -عليه السلام- بالوَحْي؛ تحذيرًا من مغبَّته، وتحريمًا لأدبياته الجاهلية -إن صحَّ التعبير- التي انتشرتْ حينها على نطاق واسع؛ وكإطارٍ قانونيٍّ -أو إنْ شئنا الدِّقة تشريعيٍّ- يضبط منظومة الاقتصاد في ذَيْنك الزمان؛ فكانتْ آياتُ اللهِ البيِّنات: "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ"؛ استكمالاً لشريعة السَّماء من أيام نبيِّ الله شُعيب، الذي قال عنه القرآن حكايةً: "وإلى مديْن أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ"؛ وكمعالجة ربانية لكلَّ مُشكل اجتماعي أو فسادٍ اقتصاديٍّ.

وما يُدلل على رؤيتنا؛ ما وَرَد في إحدى الروايات الصحيحة من أنَّه لما نزلتْ هذه السُّورة على رسولنا الكريم، خرج إلى المسلمين وقرأها، ثم قال: خمسٌ بخمس. فقيل: يا رسول الله، وما خمسٌ بخمس؟ ((وكأنَّ النبي أراد أنْ يقول بأنَّ ثمَّة قوانين إلهية وسُنن كونية، وهي خمسٌ، والمقدَّمة منها تستوجب نتيجة حتميَّة))، فقال: ما نَقَضَ قومٌ العهد إلا سلَّط اللهُ عليهم عدوَّهم، وما حَكَموا بغير ما أنزل الله إلا فشى فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفواحش إلا فشى فيهم الموت، "ولا طفَّفوا الكيل إلا مُنِعوا النَّبات"، وأُخِذوا بالسِّنين -بالقحط- ولا منعوا الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القطر".

إنَّ هذا الحديث الشريف يُحيلنا إلى ما أكَّدنا عليه في المقال الأول من هذه السلسلة، بأنَّ ثمَّة علاقة وثيقة تربط بين فكرة الاقتصاد القائم على الشريعة والاهتداء بهَدْيِها، وما يُطلق عليه "فقه المعاملات"؛ فالأخير بدوره يتناول بالدراسة طبيعة النشاط الإنساني الذي يتصل بالإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وإن كانتْ "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ" تخصيصًا يُسقط على قطاع التجَّار، إلا أنَّ ما يتصل بها من آيات عن العقيدة والأخلاق تعدُّ إطارًا عامًّا يعملُ بداخله النظام الاقتصادي في الإسلام، بل ولا يُمكن له أن يعمل بمعزل عن هذا الهديِّ الإلهيِّ الخالد والسُّنة النبوية المُتواترة، وما علينا سوى استنباط تلك القواعد العامة التي تحكم السُّلوك الاقتصادي ونحن نتلمس خطواتنا نحو إنفاذها توجيهاً وإرشاداً اقتصاديًّا فاعلاً.

لذا؛ لم يكن من عَجَبٍ أنْ يجد القارئ في نهاية استعراضِ آي الذكر الحكيم لبُعد اقتصاديٍّ وظاهرة مَسِيْسة الصِّلة بالجانب الاجتماعي كـ"التطفيف"، استفهامًا استنكاريًّا: "أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ"؛ وكأنَّ الله يريد أن يُخبرنا تأكيدًا وليس من باب العلم بالشيء بأنَّ مَنْشأ ارتكاب كبيرة بحجم هذه الظاهرة هو عَدَم الإيمان الكامل والصادق بيَوْم البعث؛ فلو أنَّ الإنسانَ يُؤمن إيماناً صادقاً بيوم البعث ما كانت لتصدُر عنه مثل هذه الكبائر. صحيح، أنه قد يُؤمن بيوم البعث إيماناً باهتاً، وقد يتعقَّل حتميَّة يوم البعث، ولكنه لا يتفاعل مع هذه العقيدة، وهذا هو منشأ ارتكاب المُهْلِكات، التي لا تقتصر مضارُّها على مُرتكبيها فحسب، بل تتخطاهم إلى مظالم في حقوق الآخرين؛ مما يجعل العقوبة أشد.

إنَّ حُرْمَة المسلم على المسلم، كما ورد في حديثِ خُطبة الوداع "دمُه ومالُه وعِرضُه"؛ وما نزل به الشرع الحنيف من آيات تُضارع في بُعدها الفقهي والعقدي آيات سورة المطففين، وما حوته السُّنة النبوية المطهَّرة سواءً القولية أو الفعلية أو التقريرية في هذا الخصوص، إنما هي جُملة مبادئ عقائدية وأخلاقية ومفاهيمية ينتظم في ظِلِّها سلوك الإنسان المسلم من جانب، ومن جانب آخر تعدُّ بمثابة أسس متينة لبناء نظام اقتصادي إسلامي تحتكم نشاطاته لمنهاج قويم، يُبغضُ الفعلَ الذميم، ويُثيب على طَهُرَ الأفعال ونزاهتها؛ انبثاقًا من عقيدةٍ تُعْطِي المسلمَ تصوُّرًا كاملاً شاملاً للحياة الدنيا والآخرة، وإرشادات وتوجيهات كُلية تُحدِّد خطوطَ السَّيْر والعمل؛ استلهامًا من هديٍّ مُعْجِز؛ يُبيِّن أسباب نهوض الأمم، وأسرار سقوطها. كما يؤكِّد على مُسلَّمة أنَّ أية عملية للتقدُّم لا يُمكن أن تتم في بلدٍ دُون تغيير عقلية أهله؛ كما في قوله تعالى: "إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، وقوله عزَّ من قائل: "فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ".

لقد أبْقَى شبحُ الركودِ الاقتصاديِّ الذي يُطارد الجميع منذ "أزمة 2008"، وما تلا ذلك من دورات ونكبات -لن يكون آخرها بالقطع انهيار أسعار النفط- الأبوابَ مفتوحةً أمام مُفردة "الاعتماد على الذات" في سياسات وإستراتيجيات المستقبل، وهو ما نَسْعَى لبيانه من خلال حلقات هذه السلسة؛ بإبراز ما كان عليه سلفُنا وكيف استنطقوا الشريعةَ أسلوبَ حياة، وتسليط الضوء على ما بَيْن سطور هدي رسالتنا الخاتمة؛ كمحاولة -ولو لمرة- للانعتاق من أسْرِ التبعية والاعتماد على خطط نستنسخها نسخاً بأيدينا، أو تُصدَّر إلينا من "الآخر" الذي ننظر إليه على أنه "الأفضل دائمًا".

إنَّ ثورةَ المحتجِّين حول العالم ضد "الرأسمالية" و"الليبرالية" وغيرهما من أَسْمَاء ومُسمَّيات، والمطالبات واسعة النطاق بالإسراع في تطبيق المعاملات المالية التي جاءَ بها الإسلام، إنَّما هي دعوة لاقتصاديينا الذين يوقنون بوجود اقتصاد إسلامي -بشقَّيْه النظري والتطبيقي- ويؤمنون بأنَّه صالح لكل زمان ومكان، بأن يُوحِّدوا الجهودَ ويوجِّهوها نحو تقديم حلول عملية مُبتكرة لمشكلاتنا، تكون مُستمدة من مَرْجِعيتنا الدينية، وأنْ يعملوا على تطبيقها بدلاً من "تسوُّل" الحلولَ من النُّظم الأخرى، التي لَمْ ولنْ تحقِّق لنا سِوَى مزيدٍ من الأزمات ومزيد من التراجعات.