مَا وراءَ الأَكَمَةِ! ... بين قرني المأزق والإذعان

 

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

 

 

في الشتاء، يتساقط المطرُ فيغسل أحقاد الصدور، وينقي سواد القلوب، ويصفي جلاء النفوس، وترعدُ السماءُ، بدويها المروع، فتذكرنا بأن الله الجبار أكبر من كل طاغ ناشز متكبر وإن علا صوته واشتد غضبه وعقابه وجبروته، وبين الليالي " الكوالح.. الطوالح.. الموالح.. الصوالح.. قرة العنز" وأجوائها المنعشة يدركُ كل قاس القلب فض الجانب، أن البرودة قاسيةٌ قارصة مؤلمة جدًا!

وفي "الصَّيْف ضَيَّعْتِ اللبن"، ففي مروجه الغناء تكتسي الأشجار بلون الطبيعة، حيث الثمار الطيبة اللذيذة في كل مكان، تتفتح الأزهار، وتكثر نسمات الندى كم يسحرني ذلك المنظر الخلاّب الذي يخلب الألباب ويسحر الأفئدة في حلته البهية تلك في كل صباح. فما أن تتوارى الشمس وراء الآفق والليل يرخي سدوله على الشفق، وتبدأ السحب تشيع الشمس إلى مثواها الأخير باكية، حتى تطل علينا نجوم المساء تتلألأ وسط ديجور الظلام في جو تكتنفه العتمة التي لا تكاد ترى شيئا بين تلك الأنوار الخافتة اللامعة، فلكل منا طريقته الخاصة والمميزة في رؤية الأشياء من حوله، فنظرتنا للعالم من حولنا ما هي إلا مزيج من قيمنا واتجاهاتنا وإدراكاتنا، وتلك النظرة تساعدنا في تنظيم ما يجري حولنا وإعطاء تفسيرات سديدة أو خاطئة له، فعندما يحضر الفكر فمهما كانت الأدوات ضعيفة متهالكة وبالية فإن المواهب والأفكار المكنونة تصنع بقوالب مختلفة والمواهب والابتكارات تحتاج إلى محاضن دافئة خاصة مؤهلة.

والغريب أن في أوطننا ثروات تحتاج إلى ثراء فكري لتخرج في وهج مختلف من المعارف والإبداعات والابتكارات حتى تحوز قصبات السبق في كل تحدٍ ونزال، فأنا غريب في هذا العالم المترامي الأطراف، لذلك آن الأون لترشيد أجود ما لدينا من ثروات بشرية وبحث احتياجات المجتمع من المعارف والعلوم والخبرات والصناعات التي سوف تساهم في حركة البناء والتطور لأوطاننا الحبيبة ليتم توظيفها في أماكنها الصحيحة، ويضمن أبنائنا فرصة حياة كريمة ولائقة، وحتى لا نستيقظ يوما ما، لنجد الأكفاء المبدعون من أبناء جلدتنا يبنون صروحا شامخة في بلاد غيرهم، ولم يتبقى داخل أسوار الوطن إلا من لفظتهم على حين غرة وانسلت أسواق العمل الخارجية، بعدما أغلقت عليهم الحياة في زنزانة الانهيار العنيفة، وتركتهم يتنفسون من رطب جدرانها المرارة ويعبق صدرهم بالخوف والذهول والأسى. ومَن سوف يعوضنا عن فلذات أكبادنا، الذين خسرناهم من الذين قد لا يقدم لنا القدر أشباههم مرة أخرى، فالعقول الفارغة أخطر فتكا وشراهة من البطون الجائعة.

سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم // وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدر

فَإِن عِشتُ فَالطَعنُ الَّذي يَعرِفونَهُ // وَتِلكَ القَنا وَالبيضُ وَالضُمَّرُ الشُقرُ

وَإِن مُتُّ فَالإِنسانُ لابُدَّ مَيِّتٌ //وَإِن طالَتِ الأَيّامُ وَاِنفَسَحَ العُمرُ

(أبو فراس الحمداني)

وقد قالت العرب قديما: "عِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقين"، والشيء يجذب شبيهه ليس في الأحداث فقط بل حتى في المعاني، فتجاربك وخبراتك ومحاولاتك هي من تكشف لك المعاني، وقد توجد أفكار تعجز اللغة عن التعبير عنها وتوصيلها للغير، فهل فعلا يمكن أن يكون هناك فكر بدون لغة؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن توجد أفكار خارج حدود اللغة؟ والعدسة هنا تركز على أفكار كثيرة أحاطت بمخيلتي، وتزاحمت في ذهني، تعبر بصمت عما يختلج في القلوب، وقد حان الوقت لتخرج من أسرها وأغلالها وتتدفق كالأمواج العاتية على سيل قلمي ليكتب بلغة من أرقى لغات العالم “بدون حروف ولا أبجديات" لغة المشاعر والإيماءات تلك اللغة التي تقرأها ملامح الوجه وتفضحها رموش العيون، حينها يتسربُ الوجَع مِن مَسامات الصَمت فلا صمتنا يَستُرنا وَلا نحنُ على البوح بقادرين... فأضحى حالنا بين مطرقة البوح وسندان الصَمت، وإذا تحدث صمتي عن حزني حرك دوني جبال الألم الشاهقة الراسخة بكاء وحزنا وأسى وشفقة على ما أصاب الإبداع والابتكار من جروحٍ وشروخ صنعتها الأيادي المحترفة. في هذه الأيام تموج بحارها وأمواجها بالضجيج المجلل والغوغاء وتفيض بالثرثرة وقلة الأفعال ويقف على شطآنها الذين يدعون المعرفة والكمال الزائف، وتطفو على سواحلها بين قرني المأزق أنصاف المتعلمين، ممن يبتغون صناعة مكانة لافتة لهم بين الأنام، وينشدون حضورا قويا وذا معنى.

بيد أنهم لا يقرأون وإن قرأوا لا يفهمون وإن تظاهروا بالفهم يجادلون وإن جادلوا ينكشفون وتتساقط الأقنعة، وتغيب شمسها ويأفل نجمها. فهل من ملاذ للقلوب المفطورة التي أغلقت عليها الحياة في زنزانة الانهيار العفنة فتركتها تجاذبها الأهواء والمطامع يتنفس من رطب جدرانها المرارة ويعبق صدرها بالخوف والذهول وتعتريها المسغبة، ومن باب المقارنة المؤدية إلى الفهم السليم للعلامات الفارقة بين العزة والذل؛ نجد عزيز النفس الذي يأبى الذل والإذعان ويرفضهما مهما كان المتاع.

من الرائع والجميل أن يجد المرء وقتًا، يخلو به مع نفسه، تزهو فيه روحه، ويجمع شمل أفكاره وذكرياته المتناثرة، وتروق له مشاعره الجياشة، يخاطب فيها نفسه، ويحادثها مصارحًا ومُعاتبًا لها عمَّا أساءت واقترفت وشُغِلَت عنه وانطوت بين سجلات الأحداث ويقلب أرماسها، ويتذكر شئون الحياة وصراعاتها المتلاحقة، وفي ساعات الصفاء الروحي وبين تلك اللحظات تجيش في النفس أشتات من المشاعر، تبعث فيها الأمل تارة، واليأس والكآبة تارة، ويتذكر حينها تساقط بعض النفوس والقلوب من حوله ويتمنى أن لو كانت ذاكرته من رمال لا تمسك لهم ودًّا، حتى لا يبقى رمسها وينمحي عورها بين ثنايا الصدور لتجبّر بمعانيه الرحيمة كسور الأرواح المنكسرة، والقلوب المهشّمة، والأنفاس الضعيفة التي تحتاج إلى من يجبرها ويضمد جراحها ويداويها من عواصف  التهشّم والضعف والانكسار، حينها تذكرت لماذا لا تعرف النفوس الجليلة والقلوب الكبيرة الرحيمة الكبر والظلم، لأنها كلما ارتفعت واعتلت تجلت في رحمتها وشفقتها وسمت في علياء عفوها وصفحها، لأنها داخل الأجساد العظيمة التي كلما ارتقت في سمو الكمال اتسع صدرها، وامتد حلمها وطلبت للناس الأعذار، والتمست لأغلاطهم المسوغات والتأويلات المشرفة، وأخذتهم بالرفق ولين الجانب والحلم والعفو والصفح؛ لأنها نفوس تحمل داخلها القيم والمبادئ ما يجعلها ألا تنحدر إلى السفح، لأنها تعي جيدًا أن هذه الحياة لن تخلو من الأشخاص غير المحبين للنفس؛ ما دامت أرواحنا في أبداننا تدب فيها الحياة.

لذلك دائمًا كن لطيفًا ولينًا، ولا تُحاول أن تصنع من نفسك إنسانًا فضا غَيْظًا لمجرد أن أحدهم أخطأ في حقك، ولا تُقابل السيئة بالسيئة، وتذكر قوله تعالى: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت:34). هُنا تظهر معادن النفوس الطيبة الذين ينتصرون على إساءة الناس إليهم. فهنا لا بد أن ‏تتعلم العطاء حتى في ظروفك الخانقة، وأن تهب لمن حولك ابتسامة وإن كنت تبكي، فإن متعة العطاء ستمسح متاعبك، فإياك ثم إياك أن تكون معول هدم، وقد كنت من ذي قبل معولا لرأب الصدع، ولمّ الشمل وتآلف الأرواح، يجب أن تسمو بروحك، وعليك أن تتعامل مع الناس كما يتعامل الطبيب مع المرضى، قد يكون المرض واحد، والعلاج مختلف.

قالت غلبتُكَ يا هذا، فقلتُ لها // لم تغلبيني ولكنْ زِدتِني كرما

بعضُ المعاركِ في خُسرانِها شرفٌ // من عادَ مُنتَصرًا من مثلها انهزما!

ما كنت أتركُ ثأري قطُّ قبلَهمْ // لكنّهم دخلُوا من حُسنِهِم حَرَما

يقسو الحبيبانِ قدْرَ الحبِّ بينهما // حتى لَتَحْسَبُ بينَ العاشِقَيْنِ دما

ويرجعانِ إلى خمرٍ مُعَتقةٍ // من المحبةِ تَنفي الشكَّ والتُهَما

(تميم البرغوثي)

وقد يحب بعض البشر الانعزال والانكفاء بعيد عن الأهل والأقارب والأصدقاء والجوار؟ اعتقادًا منهم أن في ذلك راحة نفسية وسوف يكونون بعيدين عن الطاقة السلبية والمجاملة والنفاق والصراع الصدام، ولكن ليس كل البشر سواسية فهناك من نحبهم ونعزهم، وطبيعة الحياة توكد أن الصراعات لا تنتهي، ولا يمكن أن تنتهي، ما دام في الدنيا مصالح متضاربة وأولويات متعددة وأطراف متباينة. فسيرة تطور المجتمعات غالبا ما تخضع لقانون الشد والجذب، أو ما يسمى بالتدافع بين البشر بعضهم لبعض، بيد أنه أكبر خطأ يصدر منّا حينما نكون كالكتاب المفتوح، فيقرأنا كل من اقترب من قلوبنا الرحيمة ونفوسنا الضعيفة، فالبعض قد يستهين بالسطور، والبعض الآخر قد يسيء الفهم، والبعض قد لا يفهم بتاتًا، فتبدأ تدور المعارك الطاحنة والتي حرَّكت ما سكنته القوافي ففاض تبياني فيا أبعد الله قلبًا قُدّ من حجر يؤذي الأنام ويهنا مثل الشيطانِ.

فما أروع الحياة عندما تعلمك دروسا قاسية وتكشف لك أسرار الوجود، وحقيقة الأشياء من حولك، حينما يسقط القناع وتنكشف الحقيقة، ترى وجوها عليها غبرة، ترهقها قترة، تحاول أن تتغلغل وتتسلل بين أفراد المجتمع بصورتها غير الشريفة، فالمتلونون يصعب العيش معهم، وكيف يمكن أن يكون التآلف والوداد مع من كنت تظن أنه الدواء الشافي والبلسم الكافي لجرحك، وصرحك العالي في بنيانك، وحلمك الوردي لأملك، وإذا به يهوى أمامك وتنكشف حقيقته عند سقوط قناعه المختبئ خلفه. تسقط الأقنعة حينما تصفعك اليد التي كنت تنتظر أن تُمدّ لك يد المساعدة والعون، وقد كنت تظن أنها سندك وظلك الذي تاؤي إليه وقت الشدة والانكسار، يقول جبران خليل جبران عن الوجوه: "رأيت وجها يظهر بألف مظهر.. ووجها مظهره واحد أبدا كأنما قد سبك في قالب"، وتسقط الأقنعة حينما يتنكر لك من كانت له منزلة في قلبك، قد تتجاوز منزلة من تعزهم من أقربك، فلا تسلم من لسانه، وتركلك قدمه التي كنت تظن أنها معينك وسندك على نوائب الدهر وتحديات الحياة. فهم ليسوا بالرموز البارزة التي يمرّر الحالم عليها أصابعه كلّ ليلة، هم فقط كيانات وحشائش ضارة لا تظهر في الحلم لأنهم لا يتسلّلون إلى اللاوعي، هم أناس قال فيهم الوعي كلمته، هم أناس اعتقدوا أنهم أحرزوا حبّا فافتقدوا قلبا، وهم أناس تكالب عليهم القهر المدقع وضرّسهم الزمان وطحنتهم الأيام، وأظهرت حقيقتهم السنون، واليوم يبدون أشبه بالأطلال، فالمواقف والأحداث هي وحدها من تكشف لك الأقنعة، والمعاملة هي من تكشف لك الحقيقة، فمن رام معرفة صدق الوجوه فليتأمل في المواقف والوقائع، وليتأمل أصحابها، فشكرا للأيام التي أظهرت المعادن الحقيقية وكسرت الأصنام والتي تهوات صرعى كأنها أعجاز نخل خاوية ، وقديما قيل:

جزى الله الشدائد كل خير // عرفت بها عدوي من صديقي [الإمام الشافعي]

فمهما حاولنا جاهدين أن نجعل حياتنا كاملة، لا بد وأن يكون هناك جزء مفقود، لذلك كانت تلك ثرثرة أرواح متوجعة، وقد حانت لحظة كشف الستار عن مسرحية المخادعين، وقد اقتربنا من الفصل الأخير في سطور تلك الرواية.. لذلك يصعب بعدها الاستمرار في التمثيل! ف" وَرَاءَ الأَكَمَةِ مَا وَرَاءَهَا". وللهِ سر التوقيت.. وسر الدهشة، فجأة تمر بنا قافلة الأيام على تجربة لم نكن نقصد الذهاب نحوها، فتظل تهزمنا لواعج الأحزان وتكسرنا كوامن الأشجان حتى تنتزع منا كل معاني المقاومة ... ورويدا رويدا وشيئا فشيئا، تتلاشى وتساقط كل تلك الأحلام الوردية ويصبح حلمنا الوحيد وهدفنا الأسمى أن نعيش الاطمئنان فقط لا أكثر! ولكن أتدري ما العجب؟ أن يُلقى أحدهم في جب لكي تنجو أنت فقط!  من غياهبه وظلمته وأن يُكتب التاريخ كله ويسخر من أجلك، لتسجل مناقبك الزكية وسيرتك الملهمة أنت. وأن يكون أقسى ما مر عليك، هو أسعد ما دبر لك ..."فلا تقلق من تدابير البشر فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله". (محمد متولي الشعراوي)

ولله سر التوقيت، وسر الدهشة فقد تكون الأقنعة المتساقطة في فصول الحياة كلها خيرًا عظيمًا، حينما تتلاشى الأكتاف وتنسل من حولك تدريجيًّا، كُلما ازدادت حاجتك للاستناد عليها، لأنَّ الله يُريد تذكيرك بأنه وحده لن يخذُلك متَّى ما احتجته، وأنه قادر على أن يبعد عنك من لا يليق بك فقط وبروحك النقية الصافية، فثق بالله واطمئن.

تعليق عبر الفيس بوك