السقوط من الروزنامة

هلال الزيدي

حادثة وَقَعتْ أحداثُها في مَطَار دولة عربية ذات تاريخ وحضارة؛ حيث اختلفَ الموظَّفون مع مُسافر مُوريتاني أرادَ إنهاء إجراءات وصوله؛ وذلك عندما طلبوا منه تأشيرة الدخول كإجراء لكل مُسافر، حينها أفادهم بأنه عربي ومن دولة عربية إسلامية، وبحسب القانون والإجراءات فإنَّ التأشيرة تمنح في المطار، شريطة أنْ لا يكون قد سبق له السفر إلى "إسرائيل"، وأشياء أخرى تتعلق بعدد الدُّولارات التي بحوزته، لكنَّ الموظفين اختلفوا على عُروبية موريتانيا وإسلاميتها، وبَعْد جِدَال طويل وقَرَار بترحيل المسافر الموريتاني، وبحث وتقصٍّ، كان مَوْقع "ويكيبيديا" حَكَمًا بينهم، حينها تأكَّدوا بأنَّ مُوريتانيا دولة عربية وإسلامية، وهي بلد المليون شاعر.. وهي.. وهي..

إنَّ حادثة كتلك تجعلنا نعيد النَّظر في الروزنامة العربية، وكيف تتساقط في خِضَم المتغيرات السريعة، فأنْ يكون مُوظَّف المطار على غير علم بأبناء عروبيته، فهذا أدْهَى وأمر؛ لذلك فإنَّ انصهار وتفتت الثقافة العربية، واستبدالها بالثقافة الغربية جَعَلنا لا نُقدِّر الحضارة التي كانت يوما من الأيام مقود العالم؛ لأننا تخلَّينا عنها لصالح التمدُّن والحداثة التي اشتغل عليها الغرب، تحت مُسميات التقدُّم والتطوُّر؛ فكلما كُنتَ غربيًّا في سلوكك وقيمك وعلاقاتك وفهمك، كنت مُتقدما وعالميا.. تلك المقاييس أُوْجِدت لزعزعة الوحدة العربية، وما تلك الأحداث إلا مقياس لنجاح التوجُّهات الغربية، حتى أصْبَحنا نُسقِط أنفسنا لتتساقط عروبتنا، وتكون في الحضيض، وهذا ما يقودني إلى الحديث عن منظومة السقوط التي تتسع أُطرها في كل توجُّه عربي.

إنَّ السقوط الذي يقوم به الفرد في مجتمعه سببه ضياع الهوية، وانحسار المعرفة التي لم تقدمها المؤسسات التعليمية في مختلف المراحل؛ لذلك كانت الناتج بأننا لا نعرف حدودنا وقيمنا، حتى أصبحنا نمارس فكر السقوط في كل محيطاتنا، فكم من مؤسسة أسقطت الكفاءة من روزنامتها؟ لتترهل المسارات فيما بعد وتكون جوفاء، وكم من فرد مارس سطوة السقوط على أسرته؟ فكانت التقاليد العريقة هي الضحية، فشب الأبناء على ثقافة سطحية ممسوخة، غير قادرة على الإنتاج، لأنَّ همَّها الوحيد التقليد، وعدم الانفكاك من ربقة الاستعمار الفكري الغربي الممنهج.

لعلَّ الدورَ المؤسسيَّ الذي تُؤدِّيه العديد من المؤسسات التعليمية والإعلامية كان له الأثر السلبي في الخروج عن الروزنامة العربية الإسلامية؛ لذلك شكَّل البعضُ منها مِعْوَل هدم أدَّى لإيجاد فرد مستهلك غير آبه لمستقبل أمته وعمق عروبته، فكان ضعيفا في أيديولوجياته التي لم تقوَ على صدِّ الهجمات الشرسة التي نالتْ كلَّ شيء، ووصلت حتى إلى مضجعه وهو نائم.

لا يُمكن أن ننسلخ عن عروبتنا التي نُفَاخِر بها العالم، كما أنَّه ليس من الدِّقة أن يبتعد بناء الأجيال عن النطاق العربي الوحدوي، حتى وإن كانت الأحداث المدمرة غير مشرفة؛ لذا علينا أنْ نُعِيد البناء وفق أطره التي تمنح التفاؤل وتهيِّئ الأجيال بأن ينطلقوا من ثقافة عربية حديثة ومتجدِّدة في تماسكها، مع عدم تجاهُل التقدُّم الذي يشهده العالم، وهذا ما يَجْعَلني أُؤكد على التوغُّل في القيم الفكرية، وإعطائها المساحة الأكبر بدلا من التركيز على التسلية المفضية إلى الخواء الفكري، مع ضرورة التأكيد كذلك على توسيع قاعدة الثقافة الذاتية عبر استغلال التطوُّر التقني للمصلحة المعرفية، وليس لمجرد التسلية الرخيصة التي تقيد الفكر من التفكر والتدبر.

لا نختلف على أنَّ القراءة هي المساهم الأول في زيادة الكم المعرفي لدى الفرد/الإنسان؛ لذا فلا يُمكن أن نربط القراءة بالمراحل التعليمية أو التحصيل الدراسي، لنفرغ القراءة في شهادات فقط، وبعدها نخرج كما دخلنا خالين الوفاض لا نستطيع الخروج من الأزمات المتتالية التي عصفت بمجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ فالجميع مُطالب بالقراءة -على المستوى الفردي/المؤسسة- من أجل مُجابهة مُتطلبات المسار اليومي، وحتى لا يتوغَّل فينا التأخُّر المؤدِّي إلى الضعف، وعليه فتغيير الروتين اليومي في محيط العمل مهم؛ فبدلا من إعطاء استراحة للموظفين باحتساء القهوة والشاي، علينا أن نهيِّئهم ونشجعهم على القراءة في صميم عملهم، وربط تلك المبادرات بتقييم الأداء السنوي.

رُبَّما ينظر البعض إلى حادثة هذا المطار على أنها "عادية جدًّا"، وربما هُناك وقائع كانت أقوى من تلك، إلا أنَّه من الضروري الالتفات إلى كل صغيرة وكبيرة، "فالنار من مستصغر الشرر" كَوْن التجارب الحيَّة في منظومتنا تعطينا مؤشرا حقيقيا بأننا ندور في فراغ لنتخلف ونختلف، بينما الآخرون يتقدمون؛ فلو كانت تلك الواقعة في دولة غربية، لدفعت المسؤول إلى الاستقالة، لأن ذلك الحدث هو تقصير وضعف فيه، وعلينا قياس ذلك على واقعنا.

-------------------------------

همسة:

واقِعُنا يدُوْر في كَنَف السقوط؛ فالمعرفة لدينا غير معروفة وغير معرَّفة، لكنها تأتي في إطارات سرمدية تختفي باختفاء الحاجة؛ لذلك تقدَّمواعلينا بمئات السنين الضوئية، واللحاق بهم مُستقبل قاتم....!

[email protected]