قناع واحد لا يكفي

 

هلال بن سالم الزيدي

يُقال إنَّ أعداء الداخل أخطر من أعداء الخارج، وتلك عبارة شديدة الوقع خطيرة المنبت؛ لأنَّ ضررها واقع ومستفحل ومورّث؛ واجتثاثها صعبٌ جداً، فمن هم أعداء الداخل؟ وكيف يتلوّن هؤلاء بألوان الحب؟ وما الوسيلة لانكشافهم أو تعريتهم؟ وهل حقاً وجودهم خطر سطحي أم جرح عميق لا يندمل؟ وهل هناك علاقة بين عدوانهم وحب التملك والسيطرة على مكتسبات الأوطان؟ وما هي الصور التي يظهرون عليها؟

اعتبر الكثير من المفكرين والباحثين والمحللين والكتّاب أن أعداء الداخل يتمثلون في بعض الفاسدين ممن يتملّكون أمور العامة فهم يقوّضون سلاسة العمل وخدمة العملاء ويعملون على بيروقراطية مقيتة تؤخر عملية النهوض بالمجتمع من حيث التنمية وتوجد أفراداً مقتاتين على فتات "الكبار" فيصبحون عالة تتربص بالتماسك الاجتماعي وتقوّض أركان الحضارة التي توقفت بين جدران الخرافة والأساطير المبنية على "كان أبي وجدي" فيما الحاضر لا يعكس ذلك البناء إلا شذرات نمت باتجاهات عشوائية أو ربما لم تتماشَ مع الثورات التكنولوجية التي تحتاجها الأجيال؛ وهذا ما عقّد العلاقة بين القيمة المضافة التي تقدمها الأجيال للبناء الحضاري الممتد في كل اتجاهات الحياة وبين الأدوار التي رسمها ثُلة ممن يوصفون بأعداء الداخل.

مع تناثر الأقنعة وتبدلها أصبح القناع الواحد لا يكفي فهم يتقمّصون الشخوص على أقنعة متنوعة فأتقنوا التلون بألوان الحب واستطاعوا حشد الحواشي ليقرعوا طبولهم ففي كل المواقف يظهرون ويثبتون بأنّ الشباب لا يتقنون المعرفة ولا تتوفر لديهم طاقات الإبداع ولا يستطيعون مواجهة الأزمات "المفتعلة"، وهناك من يساعدهم في تلميع ما يأتون به حتى عدّوه منجز القرن، وهناك ممن يقلب في أمهات الكتب ليثبت للعامة أن الأزمات دوران اقتصادي عالمي ويجب أن تقدم لذلك المارد أضحية مناسبة كي لا تحدث مصائب تخفي سنوات الدلال عند ممن يوصفون "بأعداء الداخل" لتكون الضحية في الكثرة وليس في القلة.

لكل بداية محرّك وموقد، وحتى تتسع حدقة المعنى في المقاصد التي تحملها الأقنعة، كان للنص المسرحي "قناعٌ واحد لا يكفي" للكاتب الدكتور صالح الفهدي حضوراً قوياً في وصف الأقنعة، لذلك اقتبست منه عنوان المقال حتى اقتفي تلك الأقنعة التي جاء بها في نسق "مينودراما" الذي يجسده ممثل واحد، وأنا هنا لست بصدد قراءة النص المسرحي، وإنما هي محاولة لإسقاط بعض الأفكار التي تسلسل بها النص والتي اتفقت معها فكرة المقال في مسألة الأقنعة التي تتلون وتتشكل في محيط الحياة الإنسانية أو ما شابهها.

فبعد أن أوصد "الممثل/ الإنسان..." على نفسه الباب، وقطع كل المنافذ على الآخرين في الاستفادة من مجريات الحياة أو ممارسة أدوراهم عبر معبر الحقوق والواجبات، أصبح هو المؤثر والمستحكم وهذا ما ينطبق على "السوبر مان"، فطفق في تقمص كافة الأدوار التي تخرج من فضاء المسرح بجملة من الإسقاطات إلى الواقع المعاش لتصبح نظرته دونية لا تتجاوز عتبة أنفه: "يسرع نحو الباب ليتأكد من وصده.. لا يهمُّني الانزواءُ بعيداً، فهنا تجد نفسي ضالتها .. جدرانٌ كالحةٌ لكنها بالنسبةِ لي فضاءُ "يوتوبيا" لا تحدّه حدود .. ومرآةٌ لا تشوِّه الحقيقة .." يؤكّد "أجل هذا أمر هام.. لا أحب المدينة لا مسرح ولا جمهور.. سأصرُّ هذه المرّة على التّحدي.. أمقتُ الوظيفة، والمسؤول .. ذلك الوجه المتشدِّق متعجرف "يذهب لارتداء لباس عسكري، بشاربٍ هتلري.." يظنُّ أن الدنيا لا تتسع إلاّ لموطئ حذائه، وهو حين ينظرُ إليّ، فإن هزائمَ العالمِ تتجسّدُ في عينيه الحقيرتين.. لن أنسى بعد بذاءته وهو يجيبني عن إخفائه لهويّتي في لوحاتي التشكيلية.. ونسبته أعمالي لآخر لا يفقه في الفنِّ حرفاً.. "يقلّد المسؤول" (نهاية الاقتباس).

إنّ القاسم المشترك بين من يمتلكون أكثر من قناع واحد وبين ما ورد في مقدمة المقال "أعداء الداخل" يتشكل في قدرتهم على التخفي والتبدل لممارسة أعتى صنوف الصفاقة في تحوير الأحداث بما يناسب مصالحهم، وخاصة عندما يعتلون قمة "السلم" وينظرون نظرة فوقية لا تلامس حاجة من هم في أسفل السلم المتهالك، لذلك غرهم ارتفاع السلم والهالة التي تكونت من ضعاف القلوب المعروفين "بالبطانة الطالحة" فهي المستنقع الذي يزداد فيه "نقيق الضفادع" حيث يصفون صوتها بأنها الموسيقى العذبة، وهذا ما ينافي الواقع جملة وتفصيلاً.

عندما يحاول ذلك الكيان/ الفرد/ أن يتمرد على الواقع المفروض بشتى الطرق فشيئاً ما لا يطاوعه ولا يمكن أن يطلق بوحه لأن المعتلي لا يسمع إلا صوته:"-وددت يومها أن أمزّق قناعه الذي يتخفّى وراءه .. فأرى عظام جمجته الصفيقة.. دارت بي الدُّنيا يومها.. " تسقط سلم" ويومها تمرّدتْ عليّ نفسي، لملمت قواي.. واستجمعت شتاتي، وهرعت إلى السلّم.. " وحين يكاد أن يصل إلى السلم، يرتفع السلم.. ثم ينزل بعد أن يولِّي الممثل قافلاً، ويحاول مناورته أو مغافلته، لكن السلّم كان يرتفعُ في كل مرّة.. صوت كلاب تنبح بكثافة" أيها السلّم الساحر.. أليس لك من قلبٍ فيرق؟! لا أريدُ شيئاً سوى الصعود كي أطلق بوحي.. " (نهاية الاقتباس).

يمتلئ النص المسرحي "قناع واحد لا يكفي" بالكثير من الوقائع إلا أنه من الصعب الخوض فيها لضيق المساحة، وعليه فلا بد من الانتباه لمسالة الاستحواذ حتى لا يظهر الثوب مهلهلاً، فينقلب البوح إلى نوح!.

همسة

كثُر الحديث عن الأقنعة والزيف المتلبد خلفها، والتي أودت بالمسار إلى غياهب الجب.. ومع ذلك كله فلا وجود لمستمع حصيف، ولم تتفاعل المجسات التي تتشدق بالشعارات في كل محفل.. وعليه أصبح الوضع: "كمن يؤذن في مالطا".

 

abuzaidi2007@hotmail.com