القيادة والبُعد الإنساني للإدارة

 

علي المعشني

 

يتذكر أحد الملحقين العسكريين المصريين أول لقاء له مع الزعيم الخالد جمال عبدالناصر في زمن التحدي والكبرياء العربي، حيث كان المذكور يعمل ملحقًا عسكريًا لبلاده مصر في جمهورية ألمانيا، وكان على علاقة عاطفية قوية جدًا وسرية للغاية مع فتاة ألمانية ولكن وظيفته تُحرم عليه الارتباط الزوجي من غير الجنسية المصرية.

يتذكر لحظات وصوله لمكتب القائد عبدالناصر في الستينيات من القرن المنصرم وترقبه للقاء في مكتب سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات، ليعرض على الرئيس تفاصيل المهمة التي أنجزها وفق رغبة وبناء على تكليف الرئاسة له.

يقول: دخلت على الرئيس وشرحت له كيفية إنجاز المهمة التي كلفت بها والتي استحسنها الرئيس وأثنى على جهودي في إنجازها، وحين هممت بالاستئذان منه لعلمي بكثرة مشاغله وازدحام وقته، قال لي الرئيس: أنتظر لنشرب القهوة معًا، فخجلت منه وعدت إلى مقعدي، وطلب لنا القهوة، ودار حديثنا عن شؤون خاصة وظروف عملنا بألمانيا ثم فاجأني فخامته بالسؤال: ما زلت تحب الفتاة الألمانية فلانة...!!؟ يقول تسمّرت لثوانٍ لوقع السؤال وغرابته عليّ، ثم لملمت شجاعتي وقلت له وأنا مطأطئ الرأس خجلًا ودهشة: نعم يا أفندم لازلت أحبها.. ولكنني أعلم أن القوانين العسكرية تمنعني من الارتباط الزوجي بها. يقول: ساد الصمت لثوانٍ فوجدتها فرصة للاستئذان فأذن لي بالانصراف بعد أن شكرني مجددًا على جهودي وإخلاصي والتفاني في عملي خدمة لمصر.

في صبيحة اليوم التالي يتلقى الملحق العسكري اتصالًا من رئاسة الجمهورية ومن سكرتير الرئيس للمعلومات سامي شرف بالتحديد ليقول له: مبروك.. فقد أصدر السيد الرئيس قرارًا جمهوريًا بمنح الآنسة... الجنسية المصرية، وبهذا يمكنك الزواج منها فقد أصبحت مواطنة مصرية. يقول: لم تسعني الدنيا من الفرحة بالقرار، كما لا أستطيع وصف مشاعري لحظتها ولا لاحقًا حين أفكر في كيفية حرص وانشغال قامة بحجم الزعيم عبدالناصر بتحقيق حلم حياة لمواطن بسيط مثلي، ولا يعلم سوى الله وحده بأثر هذا القرار على نفسيتي ورفع منسوب إخلاصي للوطن والعمل بصورة تفوق الوصف، لأنني شعرت بأنّ هناك من يقدرني وينظر لإنسانيتي ويحرص على جبر ضرري في ملمات الدهر ونوائبه.

حين تولى فؤاد عبدالله شهاب والمعروف اختصارًا بـ فؤاد شهاب الرئاسة في لبنان (1958 – 1964م) هو مسيحي ماروني بالمناسبة، وكان قبلها القائد العام للجيش (أول قائد عام لبناني للجيش اللبناني) ثم وزيرًا للدفاع، أصدر قرارًا جمهوريًا بتعزيز موازنة الجيش بمبلغ (30) مليون ليرة لبنانية لإعادة جاهزيته من العتاد والسلاح والأفراد، وكان لابد لقرار كهذا أن يمر على ديوان المحاسبة (جهاز الرقابة المالية) قبل إقراره لتدقيقه ماليًا وتشريعيًا، حيث تعطل بعض الوقت في الديوان رغم متابعة الرئيس الرئيس شهاب له واستعجاله شخصيًا مع رئيس الديوان وحثه له على سرعة إعادته للرئاسة لأهميته.

حين طال الوقت، استقل الرئيس شهاب سيارته وقصد ديوان المحاسبة والذي تفاجأ رئيسه وموظفوه بزيارة الرئيس المفاجئة لهم، وسمع الجميع صوت الرئيس وهو يعلو معاتبًا رئيس الديوان على التأخير في إجازة القرار، فهمس رئيس الديوان في أذن رئيس الجمهورية قائلًا: سيدي الرئيس المستشار القانوني لدينا له بعض الملاحظات القانونية على القرار والتي كما يقول تخالف الدستور والنظم المالية السارية في لبنان، لهذا السبب تأخرنا في الرد عليكم. فتعجب الرئيس شهاب ثم قال: دعني أسمع من الموظف هذه الملاحظات، فذهبا معًا إلى مكتب الموظف والذي أبدى الملاحظات وشرحها للرئيس ثم وضع له الخطوات القانونية الصحيحة للاتباع ونفاذ القرار وفق القوانين المنظمة لهكذا حالات. تفهم الرئيس شهاب الملاحظات وطلب إعادة القرار للرئاسة لإتباع الخطوات القانونية المطلوبة، وشكر الموظف ورئيسه وغادر.

في اليوم التالي أصدر الرئيس فؤاد شهاب قرارًا جمهوريًا بنقل خدمات المستشار القانوني من ديوان المحاسبة إلى رئاسة الجمهورية وتعيينه مديرًا لمكتب الرئيس.

هذا المستشار القانوني ومدير مكتب الرئيس أصبح فيما بعد رئيسًا للجمهورية اللبنانية، وهو الرئيس إلياس سركيس (1976 – 1982م).

قبل اللقاء: القائد الحقيقي ليس من يقود أفراده بعبقرية وذكاء، بل من يستطيع صنع أكثر من قائد ممن يقودهم.. وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com