الدرس العربي من الانسحاب البريطاني

عبيدلي العبيدلي

فازَ الفريق الذي يُحبِّذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بفارق ضئيل جدا؛ إذ جاءت النتائج 51.9% مقابل 48.1% لصالح الداعين للانفصال. وأثار هذا الخروج -الذي ربما تستغرق إجراءاته الإدارية أعواما لن تقل عن ثلاث سنوات- موجة جدال عالمية واسعة، رغم دعوات الإسراع فيها، كما جاء على لسان الدول الست التي أخذت تحث "بريطانيا على الشروع في أسرع وقت ممكن في آلية الخروج من الاتحاد الأوروبي". أو كما وردت في تصريحات وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير -في ختام الاجتماع في برلين- الذي شدد على ضرورة "أن تبدأ هذه العملية بأسرع وقت حتى لا نجد أنفسنا غارقين في مأزق". وبالقدر ذاته، عكستْ العملية برمتها الثقل الذي يحظى به الاتحاد الأوروبي في المحافل السياسية الدولية، والثقل الذي تمثله بريطانيا في هذا الاتحاد، وهو ما أكدته التداعيات التي رافقت نتائج التصويت. وإذا كان لنا نحن العرب من قراءة خاصة، يمكنها أن تشكل دروسا في قراءة السلوك الحضاري الذي يؤطر السياسة الداخلية والعلاقات الدولية، ففي وسعنا تلخيصها في النقاط التالية:

1- عمق انغراس القيم الحضارية المدنية في سلوك المواطن البريطاني، فوجدناه يمارس مسؤوليته الوطنية، بغض النظر عن النتائج. عكس ذلك نسبة المشاركة في التصويت المرتفعة نسبيا، فقد "بلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء الذي أُجري يوم الخميس 72.2 في المئة. وتعد هذه النسبة أعلى بكثير من نسبة المشاركة في الانتخابات العامة التي جرت في العام الماضي وبلغت 66.1 في المئة".

2- رسوخ السياسات الديمقراطية لدى المؤسسات البريطانية ذات العلاقة، وعلى رأسها السلطة التنفيذية. فمن جانب لم تأت النتائج كما كان يرغب فيها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وحزبه الحاكم، وإنما جاءت معاكسة تماما، ومن ثم فلم تغب النتائج التي غالبا ما "يصعق" بها المواطن العربي، الذي يدرك أن المزاج الشعبي العام يناقض تماما النتائج المعلن عنها والتي تقارب نسبها قمة الاجماع، في أية عملية استفتاء تقف وراءها الدولة ومؤسساتها. ومن جانب آخر، تعكس الشجاعة التي ينبغي أن يتمتع بها من يقف على رأس هرم السلطة التنفيذية عندما يأتي المزاج الشعبي مناقضا لتوجهات حكومته. فقد بادر كاميرون إلى إعلان استقالته؛ كون النتائج مغايرة لبرنامجه الحزبي، ليس من باب "الحنق"، وإنما من باب الاتساق مع الذات سياسيا، إذ أعلن أنه لا يستطيع تبني -ومن ثم تطبيق- سياسات ليس مقتنعا بها، وتخالف توجهات الحزب الذي جاء به إلى السلطة.

3- الإيمان بمذهب القبول بالآخر، والتمسك بالعيش معه، رغم التباين في وجهات النظر؛ فالخاسرون في الاستفتاء لم يتهموا الفائزين بما نطلق عليه نحن العرب "الخيانة"، والتعامل مع الأجنبي. بل راحوا يوجهون النقد لأنفسهم لكونهم أساءوا تقدير الحسابات، ولم يولوا المعركة الاستعدادات التي تستحقها. وتأكيدا على ذلك راحوا يشخصون أسباب فشلهم قبل أن يقذفوا الآخرين بالتهم، أو التنصل من مسؤوليتهم المباشرة عن الفشل الذي تجرعوا تبعاته.

4- الانصياع للقوانين، وتحاشي ردة الفعل الآنية العفوية والمزاجية، فقد اعترف الطرفان، بريطانيا والمسؤولون في الاتحاد الأوروبي، بأن عملية الفطام، أو بالأحرى الانفصال لن تتم بشكل مباشر، وإنها بحاجة إلى فترة زمنية قد تصل إلى ثلاثة أعوام من أجل ضمان سلامة الخروج السلس الأقل ضررا لجميع الأطراف، خاصة المؤسسات التنفيذي التابعة للاتحاد الأوروبي.

5- المثابرة والاستمرارية وعدم فقدان الثقة، فوجدناه البريطانيين بعد إعلان النتائج يقبلون بالهزيمة، دون أن يستسلموا لها، بل أعادوا ترتيب صفوفهم استعدادا لخطة هجومية معاكسة يحتمل أن يشنوها خلال الفترة القادمة، والتي بدأت طلائعها بالتوقيع على عرضة شعبية لإعادة التصويت. فقد "تجاوزت عريضة على الأنترنت موجهة إلى البرلمان البريطاني للمطالبة بإجراء استفتاء ثان حول الاتحاد الأوروبي، عتبة المليونين توقيع غداة إعلان فوز معسكر مؤيدي الخروج من التكتل. (كما) وقع أكثر من مليوني بريطاني عريضة موجهة إلى البرلمان تدعو إلى تنظيم استفتاء جديد بشأن العضوية في الاتحاد الأوروبي".

مثل هذه الظواهر التي صاحبتْ التصويت على الانفصال أو البقاء، يجب أن تتحول، بالنسبة لنا نحن العرب، إلى دروس يستفاد، عند معالجة القضايا العربية التالية:

أ- الوحدة العربية، بكافة أشكالها، والأقرب منها إلى التجربة الأوروبية هي جامعة الدول العربية، وإلى حد بعد اتحاد دول مجلس التعاون الخليجي، والمنظمات المنبثقة عنهما. فإلى فترة قريبة كانت الانتقادات الموجهة تتمحور حول بطء عمليات التكامل العربي، وعلى وجه الخصوص في شقه الاقتصادي، وتخلف الركب العربي عن نظيره الأوروبي، رغم أسبقية الأول، خاصة عند مقارنة الأسواق المشتركة. ومن هنا، فمن غير المستبعد أن تجاهر بعض الأصوات المناوئة للعمل العربي المشترك؛ كي تُثبت صحة ما تدعو إليه، فتستخدم الرغبة البريطانية في الانسحاب لتأكيد دعواتها التمزيقية، على حساب مشاريع العمل العربي المشترك، مُسلِّطة الأضواء على الجوانب التي تعزز من تلك الدعوات، وتساهم في الترويج لها.

ب- إشاعة روح الانهزام وقيم اليأس في صفوف دعاة العمل العربي المشترك، من خلال التنويه إلى أنَّ ما أقدمت عليه بريطانيا هو ما ينتظر ذلك العمل. ومن الطبيعي أن يجد أولئك الدعاة الكثير من القسمات المشتركة بين بريطانيا، وهذه الدولة العربية او تلك. ومن المنطق أيضا ان تلقى هذه الدعوات "التفكيكية"، صداها الذي تنشده في صفوف بعض صناع القرار العرب، ممن يروجون للأفكار الانقسامية ويناهضون المشروعات الوحدوية، بما فيها تلك التي تحكمها روابط أوهى من خيوط العنكبوت. تزداد خطورة هذه الدعوات نحو التشظي الواقع العربي المعاصر الذي ينظر بانشطار المنطقة العربية إلى فسيفساء يصعب التكهن بمساحة أكبر قطعة فيها.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة