عبيدلي العبيدلي
من يُطالع بتمعن طيور دعوات الإصلاح التي تحلق في فضاء الإعلام السياسي العربي، وتدعو إلى وقف الاقتتال الأهلي الذي بات السمة الأساسية للمشهد السياسي العربي، يجد أن جلها يطير بجناحين يستمدان قوتهما من خلفيات فكر ديني. ومن يتفحصها بشيء من العناية والتروي البعيدة عن الانفعال يكتشف أنه أمام باقة مختلفة من الدعوات التي رغم ما يجمعها من فكر، لكنها تتباين في المقاصد. وما ينطبق على الاتجاهات الدينية يمكن تلمسه على المُنتمين للعقائد الأخرى، قومية تلك الانتماءات أم أممية.
ويمكن تقسيم تلك الانتماءات دون الادعاء أنها تقوم على دراسة ميدانية موثقة، إلى مجموعة من الفئات الأكثر حضوراً منها ينتمي إلى واحدة من هذه الأضراب، وهي:
1. المخلصة، وهي المؤمنة بوعي كامل، وإدراك مسبق لما تدعو له، ومن ثم فهي تؤمن أن بقاءها واستمرارها رهن، من وجهة نظرها، بنفي الآخر إن أمكن أو تهميشه إن لم يكن في الإمكان أكثر من ذلك. وعليه فهي لا تساوم على سيادة فكرها وهيمنة ما تدعو إليه، ولا تتردد، من أجل تحقيق ذلك في التضحية بكل ما بين يديها من نفس ونفيس من أجل تحقيق ما تصبو إليه.
2. الساذجة والمضللة (بفتح اللام) في آنٍ، وهي التي تندفع في كتاباتها مدافعة عن مذهب، أو فكر، ضد آخر، واهمة أنّها الوحيدة التي تسير على الصراط المستقيم، ومن ثم فعلى الآخرين أن يسيروا وراءها، بل ربما يصل الأمر إلى محاربة الآخرين ممن تعتبرهم مضللين، أو حتى مأجورين. وهي في كل ذلك غير قادرة على القبول بالآخر الذي ترى فيه ما يهدد السكينة الفكرية التي تنعم بها.
3. التابعة، وهي التي لا تستطيع أن تشكل لنفسها مدرسة مميزة، وليس في وسعها السير خارج السرب، لأنّها تخشى من عزلة سياسية تخشى أن تقود إلى إقصاء اجتماعي، وبالتالي، فأفضل الخيارات المتاحة أمامها هو الاصطفاف في أحد الطوابير المنتمية لهذا الفكر أو ذاك، دون أن تجد حاجتها إلى المجاهرة بالعداء للآخرين، أو الدخول في معارك ضدهم.
4. المأجورة، وهي الأكثر خطورة، كونها تدافع بوعي عن العلاقة الطردية بين سرعة انتشار ما تروجه من أفكار وسعة دائرتها والمردود المادي، المالي أو الاجتماعي المتأتي من ورائه. ومن ثمّ فهي ليست بالضرورة مقتنعة بما تبثه في ذلك الفضاء السياسي العربي، لكن الأكثر تمسكًا بما تدعو له، والأشد دفاعًا عنه والأشرس فتكاً بمن يقف ضده أو لا يتفق معها بشأنه.
القاسم المُشترك بين هذه الفئات، وإن كان مصدر ذلك دوافع مختلفة ونوايا متباينة، وأهداف غير متطابقة، هو نفي الآخر، ورفض التعايش معه، إن هو استمر في التمسك بما يدعو إليه، الأمر الذي من شأنه إشعال فتيل ذلك الاقتتال الأهلي الذي نعيشه اليوم، وسكب الزيت على نيران فتنه. والمحصلة النهائية وأد السلم الأهلي، واجتثاث جذوره والتأصيل لثقافة تؤجج الحروب الأهلية وتغذيها، وتناهض دعوات السلم الأهلي ولا تكف عن مساعي القضاء عليها. والنهاية التي تؤول لها هذه الدعوات هي فرط عقد التكاتف الاجتماعي، وتفتيت مقومات المواطنة الصحيحة التي من خلال غرس قيمها تنهض المجتمعات وتحقق تقدمها، بواسطة فكر إبداعي، يرفض الكمون التقليدي، ويأخذ بديلاً عنه ذلك السلوك الابتكاري الملهم، المرتكز على السلوك العقلاني.
الكاتب حسام سالم الياس يعالج الموضوع ذاته لكن من زاوية السلطة القائمة، بدلاً من القوى الاجتماعية، ويستعير تصنيف الفيلسوف ماكس فيبر الذي يُميز بين عدة أنواع من السلطات: "سلطة تقليدية، سلطة ملهمة، وسلطة عقلانية- قانونية.
السلطة التقليدية تقوم السلطة التقليدية على أساس مُتميز وهي التقاليد والأعراف وحكم العادة أو بعبارة أخرى المعتقدات التي وجدت منذ زمن طويل وتكون قواعد سائدة. والقيود الوحيدة على السلطة هنا هي التقاليد أو تدخل الرئيس الأعلى.
السلطة المُلهمة وهي عندما تمر أزمات عنيفة تنهار فيها القيم والقواعد السائدة في المجتمع التقليدي تظهر زعامات من نوع جديد تقود حركة التطور إلى الأمام، هذه الزعامات لا تتقيد بالوضع القائم وإنما تستوحي مسيرة التاريخ بوعي مكثف وإرادة قوية، مع أن السلطة الملهمة تكون في مجتمعات العالم الثالث وأيضًا في الدول المتقدمة إلا أنّها أيضًا تؤسس للدكتاتورية أو تؤدي مشكلات الشرعية والفردية في الحكم وأيضًا من سيخلف الشخصية الكاريزمية وبالإضافة إلى ضعف المؤسسات بسبب سيطرة الشخص الكاريزمي المطلق.
السلطة العقلانية- قانونية: وهي التي توجد في المجتمعات الحديثة وتقوم على مجموعة من القواعد القانونية المبنية على أساس المنطق وكل من له سلطان يستمد صلاحيته من القواعد الدستورية والقانونية ومصدر السلطان قائم أساسا في طبيعة النظام الشرعي ذاته فهناك تميز ما بين الوظائف وبين الأشخاص الذين يشغلونها أما خارج نطاق ذلك فإنّهم ليسوا سوى أشخاصًا اعتياديين".
ويرى ماكس فيبر، كما ينقل عنه حسام الياس أيضاً، "أن تجريد السلطة من طابعها الشخصي هو الذي نقل أوروبا من مرحلة النظام الإقطاعي إلى مرحلة الدولة -الأمة بشكلها الديمقراطي بعد أن مرت بالملكيات المطلقة".
كل ذلك يقودنا نحو طريق واحدة، إن شئنا الحديث عن بناء مجتمع عربي حديث متنوع الثقافات، مُتعدد الملل والنحل، هو وجود سلطة ملهمة عقلانية تستند إلى القانون، ومن ثمّ تؤسس لمواطنة صالحة واعية، تجسد قيم السلم الأهلي بعد أن يتشرب بها كل مواطن.
وفي حال سد هذه الطريق أو إعوجاجها، تفشل السلطات في غرس مفاهيم المواطنة الصالحة في نفوس أبنائها، ومن ثم تهد أعمدة معابد السلم الأهلي، وتقوم على أنقاضها حروب أهلية كالتي نشهدها اليوم تجتاح البلاد العربية.