مؤسسات التعليم العالي: محدودية الموازنة أم أزمة عدم الاستثمار؟

د. سيف المعمري

المؤسسات التعليمية لدينا سواء كانت حكومية أو خاصة لا تزال تعتمد على التمويل الحكومي، وبالتالي أثرت القرارات الاحترازية لمواجهة الأزمة المالية على المؤسسات التعليمية، ولكن هذه التأثيرات في بدايتها وتتوقف حدتها على درجة الأزمة وأمدها، ولم تجر حتى الآن أي دراسة استشرافية عاجلة على كيفية تأثر التعليم العالي بخفض الإنفاق في الموازنة، سيما إذا طال ذلك التأثير جوهر عمل هذه المؤسسات؛ وهو التدريس والبحث العلمي وما يرتبط بهما من تأمين أساتذة ذوي مؤهلات عليا قادرين على العمل وفق معايير عمل جديدة تتطلبها علميات الاعتماد التي تقوم بها المؤسسات التعليمية داخليا مع الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي أو خارجيا مع منظمات دولية.

إن الإشكاليات التي تواجهها هذه المؤسسات التعليمية تكمن في أنها ظلت منذ تأسيسها تتلقى من الحكومات موازناتها بدون أن تفكر يوما في إيجاد مصادر استثمارية تعينها في مواجهة تقلب الأوضاع الاقتصادية، حتى ذلك الفائض من الموازنة لم يفكر أحد في استثماره طالما أن الحكومة ستقدم في العام التالي الموازنة المطلوبة، وقد يكون الأمر هينا على كلية صغيرة متطلبات المالية محدودة. وكذلك عدد برامجها، ولكن الأمر لن يكون هينًا على مؤسسة تعليميّة كبيرة كجامعة السلطان قابوس التي أصبحت أكبر وأضخم مؤسسة تعليمية في البلد سواء في موازنتها السنوية أو في عدد طلبتها أو في عدد برامجها أو مراكزها البحثية، فكيف ستتمكن هذه الجامعة أن تحافظ على معدل الانفاق في المستقبل سواء تحسنت أسعار النفط أم لم تتحسن؟

أجزم أنّ هذا السؤال يدور في ذهن كثيرين الآن حتى وإن لم يصرحوا به، يرى البعض أنّ المؤسسات العلميّة مجرد مؤسسات خدمية غير منتجة، في حين يرى آخرون أنّها مؤسسات استثمارية عوائد الاستثمارية هي الخريجين والأبحاث والدراسات التي تسهم في تقديم حلول لمختلف الإشكاليات، إلا أنّ مصطلح "العائد من الاستثمار" ليس من السهولة حسابه بهذه البساطة الأمر يتطلب دراسة وطنية في هذه الفترة بالذات من أجل تحديد ذلك العائد وهل هو مجد وكما متوقع له؟ أم هو عائد يحتاج إلى إعادة نظر؟ إنّ مثل هذه الدراسة تبدو ملحة من أجل الحصول على بيانات واقعية عملية يمكن أن تساعد المؤسسات التعليمية في بناء إعادة هيكلة أوضاعها والعمل على البناء التدريجي لما يمكن أن نسميه بـ "الاعتماد على الذات" أي الاعتماد "على الاستثمار الحقيقي الذي يوفر أموال تسد جزءا من موازنات هذه الكليّات والجامعات، ويتم توفير فرص عمل للشباب المؤهلين فيها للعمل بشكل جزئي ومنتج بدلا من تربيتهم على الإعالة التي تعيق المعنى الحقيقي لبناء الشخصيّة الذي وضعته كل هذه المؤسسات في مقدمة أهدافها.

والسؤال الآن هل يمكن أن يحدث تغيير في فكر إدارات المؤسسات التعليميّة يقودها للاتجاه إلى تأسيس "إدارات استثمارية"، أو "صناديق استثمارية"؟ ولو حدث مثل هذا التغيير هل يمكن أن يدعم من المستويات العليا على اعتبار أنّه أحد الحلول للحفاظ على مستوى المؤسسات التعليميّة خلال الخطة الخمسية التاسعة التي من المتوقع أن تتأثر كثيرًا بانخفاض أسعار النفط؟ مثل هذه الأسئلة يمكن أن نستطلع إجاباتها من خلال تجارب بعض الجامعات في المنطقة مثل جامعة "اليرموك" التي أنشأت صندوقها الاستثماري في عام (1979) حيث نصّ القانون على أنّ موارده تتألف من مساهمة سنويّة تخصصها الجامعة للصندوق، الهبات والتبرعات المنقولة وغير المنقولة التي يوافق عليها مجلس الوزراء، وعائدات استثمار أموال الصندوق، ويستثمر الصندوق في كثير من القطاعات مثل بناء المولات التجارية، والأسهم، والعقارات، والحافظات المالية، كما أنشأت جامعة مؤتة صندوقًا لإدارة أموالها في عام (1982)، ووفق نفس النهج مضت أيضًا الجامعة الأردنيّة التي أنشأت مجموعة من الصناديق الاستثمارية (صندوق الادخار، صندوق التبرعات، صندوق الاستثمار) وكلها تعمل على إيجاد بيئية مالية مستدامة تقوم على الاستثمار الاقتصادية للموارد المتاحة. أمّا في جامعة الخرطوم فتوجد "إدارة الاستثمار" أنشأت في عام 1998 حيث تعمل وفق ثلاث مسارات استثمارية تعليميّة وتدريبية واستشارية، وكان جزءًا من هذا الاستثمار إنشاء مركز تدريبي متقدم يتم تأهيل كوادر الجامعة الأكاديمية والإدارية وغيرها بداخلها دون الحاجة إلى الانفاق على برامج خارجية يمكن أن تقدم في هذا المركز، وأنشأت الهيئة الاستشارية التي تقدم الاستشارات الفنيّة المدفوعة لكثير من الجهات، كما تمّ تطوير الاستثمار الزراعي من المنتوجات الزراعيّة وكذلك الإنتاج الحيواني من اللحوم والأجبان والحليب وغيرها، والجميل أنّ هذا التوجه من الجامعة لقي دعما من الحكومة حيث منحت الجامعة مساحات كبيرة واستراتيجيّة داخل ولاية الخرطوم وخارجها من أجل الاستثمار العقاري والسياحي.

إنّ تجارب المؤسسات التعليمية في المنطقة تفتح فرصا كبيرة لنا أن نتعلم كيف يمكن أن نبني مؤسسات تعليمية تقوم على الاستثمار الذي لا يهدف إلى حمايتها من انخفاض الموازنة بل إلى وضع بناء سليم منذ الآن للمستقبل، وأرى أنّ جامعة السلطان قابوس يجب أن تمضي في هذا الاتجاه للعديد من الاعتبارات أهمها أنّها ستكون الأكثر تضررًا في المستقبل بدون وجود استثمارات، ولتوافر الإمكانات الضخمة غير المستغلة اقتصاديا، ولأنّها لا تزال منطقة مقفلة استثماريًا لا تتوافر فيها أيّة خدمات اقتصادية رغم العدد الكبير من الطلبة والموظفين والأساتذة الذين يتواجدون بها يوميًا، ويضطرون للخروج إلى المناطق المحيطة من أجل تلبية احتياجاتهم، وبالتالي هل يمكن أن تبني الجامعة "مولا" استثماريًا بداخلها؟ هل يمكن أن تكون مزرعتها أكثر اتساعا وانتاجا؟ هل يمكن أن يكون بداخلها محطة بترول؟ هل يمكن أن تستغل قاعاتها الكثيرة في الفترة المسائية؟ هل يمكن أن تستثمر في العقارات وتبني مباني لأساتذتها وطلبتها بدلا من تكاليف الإيجار الضخمة التي تدفعها؟ هل يمكن أن تُمنح أراض سياحية ويكون لها فندق استثماري مثلا؟ هل يمكن أن يكون لها إذاعة خاصة تتيح بعض الإيرادات؟ هذه بعض المسارات التي يمكن أن تمضي فيها المؤسسات التعليميّة وفي مقدمتها الجامعة التي إن قدمت نموذجا في بناء وحدة استثمارية يمكن أن تصبح مصدر خبرة لبقيّة المؤسسات التعليميّة.

تعليق عبر الفيس بوك