حكاية هيئة

د. مُحمَّد العريمي

قال لي: وهيئتكم تحتفل بمرور خمس سنوات على إنشائها، إلا أن إنجازاتها مقارنة بعديد من المؤسسات الأخرى تعدّ باهرة ولافتة للنظر! فكيف تسنى لكم خلال هذه المدة التي قد يتحجج البعض بأنها غير كافية لتقديم العطاء المناسب بأن تحققوا كل هذه الإنجازات وأنتم الذين كانت بدايتكم بأربعة مكاتب، و22 موظفاً؟! إن ما اطلعت عليه من إنجازات أشعرني بالدهشة، والفخر، والاطمئنان في آن واحد.. فهل يُعقل أنكم استطعتم خلال تلك الفترة الوجيزة أن تفتحوا 14 فرعاً موزعة على المحافظات المختلفة، وأن تضبطوا ما يقارب الخمسة ملايين سلعة مخالفة ما بين المقلدة، والمزورة، والمغشوشة، والمخالفة للمقاييس! وأن تحلوا ما يقرب من سبعين ألف شكوى وبلاغ! وأن تستقطبوا حوالي أربعمائة ألف متابع لصفحاتكم المختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي! وأن تفوزوا بحوالي 13 جائزة محلية، وعربية، وإقليمية، وعالمية لدرجة أن منظمة عالمية كالمنظمة العالمية للمستهلكين التي تضم في عضويتها أكثر من 220 منظمة تعدكم ضمن أكبر خمس انتصارات عالمية! بل وكيف تسنى لكم توقيع كل تلك الاتفاقيات الخاصة بالتفاهم، والشراكة، والتعاون مع العديد من المؤسسات في البلدان الخليجية، والعربية، والعالمية! وأن تدشنوا مراصد ومراكز كان المجتمع بحاجتها الماسة كمرصد أسعار السلع، والموقع الإلكتروني للاستدعاءات والتحذيرات! وكيف تمكنتم من تعديل وإصدار قانونين مُهمين كانا حديث الشارع لحين صدورهما ونحن الذين ما زلنا نطالب بتحديث قوانين وتشريعات لم تعد مناسبة للظروف المجتمعية الحالية! بل وكيف استطعتم تحريك بوصلة الرأي العام تجاه قضاياكم الشهيرة التي واجهتم فيها قوى اقتصادية محلية كبيرة، وتصديتم فيها لممارسات اقتصادية سلبية كانت لسنوات طويلة تهدد صحة وسلامة واقتصاد أفراد المجتمع! أية إمكانات تلك التي تملكونها؟ وأي جيش بشري هذا الذي تملكونه لتحققوا كل ذلك!

قُلت له: أما بالنسبة للنجاح، فهذا ما ينبغي أن يحدث لا العكس؛ فالمؤسسات أنشئت لتُنجز لا لتفشل أو تقصِّر في أداء دورها ومهمتها؛ لذا علينا استغراب الفشل لا النجاح، أما بالنسبة للإمكانات الهائلة التي تتحدث عنها فقد تشعر بالاستغراب لو اطلعت عليها من الناحية المادية البحتة، فهل تعلم أن الميزانية السنوية للهيئة ربما لا تتجاوز المبلغ المرصود لبند التدريب في إحدى الوزارات، وأن معظم هذه الميزانية يذهب كرواتب ومصروفات جارية! وهل تعلم أن عدد الإخصائيين والمفتشين قد لا يزيدون على 310 موظفاً، وهو رقم لا يتناسب مع العدد الهائل والمتزايد من المحلات التجارية والتي يبلغ عددها مئات الآلاف على مساحات ممتدة في كل أرجاء الوطن! وهل تعلم أن الهيئة لا تمتلك أية مختبرات أو معامل بحثية يمكن الاستفادة منها في عمليات فحص السلع والبضائع والحكم على مدى صلاحيتها، أو كشف بعض العيوب التصنيعية في السلع المختلفة كالسيارات والأجهزة وغيرها! وهل تعلم أن هناك نقصاً في عدد الكوادر المتخصصة في المجالات الفنية كالهندسة والتغذية والقانون!

قال لي: إذاً ما السر وراء كل ذلك النجاح! وأي خلطة سحرية تلك التي استخدمها مسؤولوكم لتحقيق كل تلك الإنجازات؟!

إذا سألت عن أسباب النجاح، فابحث عن المسؤول أولاً، فاذا وجدته يتبع مبدأ التفويض في اتخاذ القرار، ويعتمد الكفاءة كأساس الترقية الوظيفية بعيداً عن الإجراءات البيروقراطية المتبعة، ويحرص على اكتشاف المهارات والقدرات الخاصة بالموظفين والاستفادة منها، ويخلق بيئة عمل اجتماعية مناسبة، وإذا وجدته يشارك موظفيه العمل الذي يقومون به، سواء أكان عملاً ميدانياً أم مكتبياً، فتجده يرد على اتصال لأحد المشتكين، أو يحرر خبراً صحفياً مع محرر مبتدئ، أو يضع تصميماً لمطوية توعوية، وإذا وجدته يحفظ أسماء المنتسبين إلى المؤسسة أكثر من موظفي الموارد البشرية أنفسهم، وإذا وجدته يلامس الواقع من خلال نزوله المتكرر إلى الميدان، فاعلم أن أبواب النجاح والعطاء في المؤسسة قد تكون مشرعة إلى أقصى حد لها.

نجحتْ الهيئة لأنها أدركت أهمية توفير بيئة العمل المناسبة من حيث الاهتمام بتوفير المرافق التي قد تعين الموظف على أداء مهمته الوظيفية، وتوفر له بيئة عمل مناسبة، فالموظف في الهيئة هو إنسان في المقام الأول، وما دمت تنشد منه الابداع والعطاء ودقة الإنجاز فلابد أن توفر له البيئة المثالية المناسبة التي تغنيه عن الرغبة في الحصول عليها في مكان آخر، لذا فقد حرص المسئول في الهيئة على الاهتمام بتصميم المبنى داخلياً وخارجياً كي يحقق بيئة عمل مناسبة تبتعد عن النمطية المكررة التي اعتادها البعض في كثير من مباني المؤسسات الحكومية الأخرى، وتوفير قاعات للصلاة، والمطالعة، والأكل، بل ومراعاة أدق التفاصيل الصغيرة كديكورات المكاتب، وتشكيلة الألوان المختارة في طلاءها، ونوعية الأثاث، وتوزيع العبارات التشجيعية المحفزة على الممرات، وبالقرب من المصاعد وأماكن الانتظار، ربما لاعتقاد المسؤول أن سطراً واحداً من حكمة أو قول مأثور قد يغير أشياء كثيرة لدى موظف ما!

نجحتْ الهيئة لأنها لم تقف عند التحديات التي تواجهها، بل حاولت التغلب عليها، فتمكنت من تطويع التكنولوجيا في تحقيق أهداف الهيئة، ومعالجة مشكلة نقص أعداد الموظفين والأخصائيين، فعلى سبيل المثال تمكنت من توفير عدة قنوات للتواصل مع الهيئة وتقديم البلاغات والشكاوى كمركز الاتصالات، وقاعات الشكاوى، والبوابة الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماعي، والبريد الالكتروني، وتغلبت على نقص عدد المفتشين وإخصائيي الضبط من خلال استخدام العديد من الأجهزة والتطبيقات والبرامج كاستخدام الجهاز الكفي (ميدان) في عمليات التفتيش على سبيل المثال، عدا مرصد أسعار السلع، والموقع الإلكتروني للاستدعاءات والتحذيرات...وغيرها من البرامج التكنولوجية.

نجحتْ الهيئة لأنها أدركتْ أهمية الاستفادة من التجارب الخارجية لدول وأجهزة ومنظمات كان لها السبق في مجال حماية المستهلك، وأهمية الشراكات المجتمعية مع مؤسسات علمية رائدة في مجال الدراسات والبحوث، فاستفادت من تجارب منظمات دولية من مثل المنظمة الدولية للمستهلكين، والشبكة الدولية لتطبيق حماية المستهلك، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وبنت شراكات مع مؤسسات كجامعة السلطان قابوس، ومركز البحث العلمي، ومعهد الادارة العامة والهيئة العامة لتقنية المعلومات، ووقعت مذكرات تفاهم مع مؤسسات مختلفة كالأمانة العامة لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية بجامعة الدول العربية، ووزارة الاقتصاد بدولة الإمارات، وجهاز حماية المستهلك المصري، ووزارة التجارة والصناعات التقليدية بالجمهورية التونسية.

نجحتْ الهيئة لأنها أدركت أهمية المسؤولية المجتمعية، والإيمان بالرسالة المنوطة التي تسبق الأداء الوظيفي، وأيقنت أن أهدافها لا تقتصر على الأهداف النمطية المتمثلة في مجرد الرقابة والتشريع وفرض المخالفات فقط، بل تتعداها إلى المسئولية والشراكة المجتمعية، والاهتمام بمنظومة القيم، فاتجهت إلى المجتمع منذ أول يوم لنشأتها وذلك من خلال السعي إلى دعم المبادرات المجتمعية التي آمنت برسالة الهيئة، واستجابت إلى تعاونها من خلال تشكيل فرق وجماعات أصدقاء المستهلك، ونفذت حملات مجتمعية هدفت إلى حث الناس على التعاون والإحساس بالآخر كحملة (خير الناس أنفعهم للناس)، وقدمت لصناع القرار العديد من الدراسات والمقترحات والتوصيات حول قضايا اقتصادية ومجتمعية قد لا يفكر آخرون من ذوي الأدوار المشابهة تقديمها كمقترح انشاء الجمعيات التعاونية، ومقترح (غذ نفسك)، وغيرها من المبادرات، والحملات، والمقترحات.

نجحتْ الهيئة لأنها راهنت على المستهلك كخط دفاع أول، وكشريك لها في أداء عملها المجتمعي، فكان له من برامجها الإعلامية المختلفة نصيب الأسد، فاستطاعت بذلك الحد من كثير من الإشكاليات والممارسات الغير أخلاقية من قبل السوق تجاه المستهلكين، ونقل السوق إلى ممارسات مبنية على القوانين، وتغيير الصورة النمطية حول أن "المستهلك دائما هو المحتاج"، أو "المستهلك لا خيار له"، أو "المستهلك لا يوجد من يقوم بحمايته"، وتغيير الثقافة الاستهلاكية السلبية، ومحاولة تحويلها إلى ثقافة استهلاك رشيد فأصبح كثير من المستهلكين يعوا أهمية وضع أولويات شراء محددة، وعدم الانسياق وراء الإعلانات المضللة، وأصبحوا أكثر حرصاً على حقوقهم المختلفة.

باختصار.. إنْ كُنا نسمي ما حققته الهيئة خلال عمرها القصير نجاحاً فهذا لأنها اهتمت بالعمل خارج الصندوق دون الاكتفاء بما في داخله.

تعليق عبر الفيس بوك