القانون الدولي الإنساني

ناصر محمد

أخلاق القتل

ربما قد يدهش القارئ حين يعلم أن هناك ما يسمى بـ "القتل القانوني"، أو القتل الذي لا يُجرّم صاحبه أو يخضعه لأي مساءلة، وهذا القتل طبعا مختلف تماما عن القتل الخطأ أو للدفاع عن النفس، بل هو قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد، أو هو بالأحرى قتل في مكان مكشوف أحيانا يترتب عليه تكريم القاتل والمقتول جراء فعلهما الذي يختصر بفصل روح الإنسان عن جسده. كل هذه الإباحة الدموية تترعرع إبان الحرب، أو النزاع المسلح وفقا للقانون الدولي الإنساني. فشروط القتل تنطبق فقط على المقاتل الشرعي الذي يحمل بندقية وينتمي إلى جيش نظامي.

وبما أن السّلم "شيء عارض على الإنسان" كما يذكر ذلك الكاتب الألماني "هرمن هسه" في "إذا ما استمرت الحرب"، فإن القانون الدولي العام لم يستطع أن يتغافل عن هذه الحقيقة فأرسى بعض الأخلاقيات الإنسانية التي تستثني بعض الفئات من القتل أو الإيذاء في أي نزاع مسلح بين دولتين أو عدة دول، وترجم ذلك في عدة اتفاقيات أهمها اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها التي تم التوقيع عليها عام 1949م إثر ويلات الحربين العالميتين التي تورط بها المدنيون أيضا، فكانت الاتفاقية الأولى بشأن تحسين حالات الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة، فيما اختصت الثانية بتحسين حالات المرضى والجرحى والغرقى من أفراد القوات المسلحة في البحار، والاتفاقية الثالثة بشأن أسرى الحرب والرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب.

ولأن مسيرة الإنسان إلى السلم عسيرة جدا، فقد تضرّرت بعض الكيانات الدولية في كثير من النزاعات المسلحة الدولية بسبب أنها ليست دول بالمعنى القانوني مثل المستعمرات والشعوب طالبة الاستقلال وبعض الجيوش غير النظامية، فاتفاقيات جنيف لم تتطرق لهذه الكيانات المستحدثة بقدر ما تناولت فقط النزاعات التي تجري بين دول معترف بها كشخصيات قانونية، ولهذا جاء البروتوكول الإضافي الأول الملحق لاتفاقيات جنيف عام 1977 المتعلق بضحايا النزاعات المسلحة الدولية، وتم بموجب هذا البروتوكول عمل حماية لأفراد اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر حين أداء عملهم، وكذلك تم تحديد شروط الاستفادة من وضع أسير حرب المنتمي لجماعة مسلحة شريطة أن تكون هذه الجماعة تحت سلطة مركزية. وتوسعت المادة الأولى من البروتوكول في التطبيق على (المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلان المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقاً لميثاق الأمم المتحدة.) ويستثنى من هؤلاء المرتزقة والجواسيس والإرهابيون.

وتستمر التواءات الحروب على الإنسان وذلك في شأن النزاعات المسلحة "غير الدولية"، والتي يكون ضحاياها المدنيون في الحروب الأهلية، فالاتفاقيات السابقة لم تتطرق لهذا النوع من الحروب، ولأجل ذلك تم إضافة بروتوكول ثان معني بالنزاعات المسلحة غير الدولية وذلك أيضا عام 1977م. وفي عام 2005 تم تبني بروتوكول إضافي ثالث لاتفاقيات جنيف متعلق بإضافة شارة ثالثة مع شارتي الصليب والهلال الأحمر وهي الكريستالة الحمراء، وذلك لتكثيف جهود جماعات الإغاثة الإنسانية وكذلك تأكيد على عدم حمل هذه الشارات لأي مدلول عرقي أو ديني أو سياسي أو إقليمي .

تاريخيا، يعود القانون الدولي الإنساني لمبادرة السويسري "هنري دونان" (1828-1910) لتأسيس "اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى" التي تحولت لاحقا إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر إثر فداحة الخسائر البشرية للحرب الفرنسية النمساوية أو ما تسمى بمعركة "سلوفرينو" التي وقعت عام 1859م، فعندما وصل دونان إليها كان عدد الجنود المتضررين في المعركة يتراوحون من سبعين إلى ثمانين ألفا بين جريح وقتيل مما شجعه على إنشاء كيان يقوم بالاهتمام بالجرحى أثناء الحرب لتقليل الخسائر البشرية، ومنح دونان جائزة نوبل للسلام عام 1901م وذلك لجهوده الملموسة. ولأن كانت مبادرته تشمل الجرحى من العسكريين في النزاعات المسلحة الدولية، إلا أن المبادرات لم تتوقف ولو على حساب ضحايا غباء البشر وطموحاتهم وذلك باتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها الثلاثة.

ولقد انضمت السلطنة إلى اتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكولات الملحقة إلا البروتوكول الأخير، ولأجل تفعيل هذه الاتفاقيات في القانون الداخلي فقد صدر قانون القضاء العسكري العماني عام 2011 متضمنا أيضا بعض المواد المنظمة للقانون الدولي الجنائي مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة على الرغم من عدم انضمام السلطنة إلى معاهدة روما المُنشِئة للمحكمة الجنائية الدولية واكتفت بالتوقيع عليها.

هناك بعض الانتقادات على القانون الدولي الإنساني وذلك في غموض تعاطيه مع قضايا الإرهاب، فكثير من الدول تستغل هذا الغموض والنقص التشريعي في استثناء المتهمين من قضايا الإرهاب من التمتع بحقوق أسرى الحرب مثلا، وكذلك أيضا لعدم القدرة على تحديد ماهية الأعمال الإرهابية لأنها لا تدرج ضمن النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية، إلا أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تندد من حين لآخر بضرورة تمتع هؤلاء المتهمين بحقوق القانون الدولي الإنساني وخاصة في معرض قيام بعض الدول كالولايات المتحدة بإنشاء معسكرات خاصة لاحتجاز متهمين بالإرهاب مثل "غوانتانامو" والتملص من عرضهم على المحاكم المختصة والتمتع بباقي حقوقهم في محاكمة عادلة. كما تم توجيه انتقاد أيضا بخصوص عدم وجود آلية قضائية لضمان تنفيذ مواد القانون الدولي الإنساني، إلا أن إنشاء "المحكمة الجنائية الدولية" وفقا لمعاهدة روما كان خطوة حاسمة لضمان وضع القانون محل التنفيذ. ولكن ما زالت المحكمة غير ملزمة إلا للدول المصادقة عليها والتي تتحصن بدساتيرها لحماية مسؤوليها من عرضهم على المحاكم الجنائية.

تعليق عبر الفيس بوك