مواقف خالدة في ذاكرة معتقة

علي بن كفيتان بيت سعيد

لا زال مُحمد يُكابد محن الفقر والفاقة مفتقداً أبسط حقوقه كطفل كأن يلهو ويلعب بعيدًا عن ملاحقة قطيع الماشية طوال النّهار أو جلب الأبقار المُتمردة من المرعى كل مساء فالعائلة بحاجة لكل قطرة حليب. يُخبرني محمد عن مغامراته مع البقرة الحمراء التي إذا ولدت لا تُرضع عجلها ولكي تستطيع الأسرة حلبها يجب ربطها بحبل في رجلها وآخر في قرونها والحصيلة كما يقول كوب حليب لا يساوي معاناة أفراد العائلة لهذه العملية المحفوفة بمخاطر النطح والرفس ولكن جدتي تحب هذه البقرة وتقول إنها هي من يقود القطيع للماء والمرعى ولا أذيعكم سراً إن قلت لكم بأنّها بقرة جميلة فعلاً.

يقول محمد إنّ أجمل أيام الأسبوع هو اليوم الذي يُسمح لي فيه باصطحاب قطيع الأبقار إلى مورد الماء فهناك التقي بأطفال آخرين في معطن الأبقار حيث نظل من الصباح إلى قرابة الظهر في لهيب الشمس الحارقة وصيحات الرجال المتكدسين في كهف وارف الظل يتناولون الشاي الأحمر الطيب المذاق ونحن نعمل على تفويج الأبقار إلى المورد الذي لا يتحمل إلا عشرين بقرة في كل شوط في هذا الثغر يجب أن تكون حذر لكي لا تتسلل من حولك أبقار إضافية فوق الطاقة الاستيعابية للحوض وكذلك الأمر يتعلق بقدرة الرجل الراسخ كالمسمار في وسط البركة ويقوم بقذف المياه من تنكته القديمة ليروي عطش آلاف الأبقار.

في ذاكرتي أُناس طيبون يراعون مشاعرنا في هذا الموقف ومنهم العم محاد رحمه الله الذي طالما جلب لنا أكواب الشاي وإبريق الماء البارد الزلال من داخل العين وكذلك العمة فاطمة التي طالما أهدتنا قطعاً من خبزها اللذيذ الذي تطبخه على الأحجار الساخنة حيث تشم رائحته من بعيد كم هو لذيذ مع الشاي المخلوط بحليب الغنم.

وهناك في ذاكرتي أناس لا تُطيقهم النفس ومنهم الزائر غير الدائم لعين الماء الذي إذا مرّ سبّنا وتهكّم علينا وإذا أراد أحد الطيبين أن يعيننا أو يجلب لنا أكلاً أو حتى كلمة طيبة تجده حارسًا متذمراً منّا طوال اليوم ولا أعلم سبباً لذلك فالرجل لا يسكن معنا ولم نؤذه بشيء ولكنه بالفطرة يكره الأطفال وفي ذات مساء أعلمت جدتي عنه فقالت لا تلُمه يا بني إنّه رجل لا يُنجب وكم تمنى أن يترك ذرية فعرفت بفطنتي على الفور أنّه يحاول إقناع ذاته التواقة للخلفة بأنّ الأطفال عديمو الفائدة.

بعد انتهاء مُهمة سقي الأبقار ندخل إلى العين الوارفة الظلال بأشجار التين وصفاء الماء الزلال المتدفق من ينبوع في جوف الكهف، كم تبدو البركة جميلة وكم تمنينا السباحة فيها حيث إنّ مهمة كهذه تُعد مخاطرة كبيرة مع الرجال فهم لا يسمحون بذلك مطلقاً بحجة الحفاظ على العين صافية نقية ولكننا كنّا نتمرد عليهم عندما ننتظر لوقت المساء وبعد مغادرة الجميع فنهرع إلى البركة ونمارس المشي في الماء والاستمتاع بذلك فقط فالبركة ليست عميقة ونحن لا نعرف السباحة والطحالب تختلط لتعطيك مزيجاً أخضر يصعب عليك هذه المهمة ولزيادة الحذر من قدوم أحد كنّا نضع ملابسنا بالقرب منّا وهناك دائماً يكون واحد منّا على الصخرة لضرورات الحراسة وكم كان يترك مهمته أمام إغراء المشهد ويقفز قفزتين أو ثلاث في هذا المستنقع ثم يقفل راجعاً إلى صخرته استجابة لصيحاتنا التي تحثه على عدم المجازفة بنا جميعًا.

على مورد الماء يلتقي الجميع رعاة الأبقار والإبل والأغنام الأطفال وكبار السن النساء يأتين حاملات أكوام الملابس يغسلنها في العين العجوز كما يسمونها فالنساء يجلسن عليها ومعهن البنات الجميلات وأظنها فرصة للتعارف والزواج فكم من خطبة تمت على جدار الماء والمهر من الأنعام وما على الرجل إلا الذهاب لإحضار ما يقدر عليه لواجب العُرس كأن يحضر كم من جراب تمر أو مكاسر السكر الأحمر ومن أولم بالرز واللحم يعتبر رجلاً عظيماً في هذا المجتمع الفقير.

عندما ترد الأغنام يستبشر الجميع لشرب الحليب فالعادة أن يتم حلب الشياه ظهرًا وطبخه مع الشاي في صفرية كبيرة بحيث يشرب الجميع وكنّا كأطفال نتحلق حو الصفرية وكل واحدٍ منّا لديه كوبه لأخذ حصته من هذه الوجبة اللذيذة مع ما تبقى من خبزة العمة فاطمة رحمها الله.

يقول محمد لا أخفي عليكم أنني معُجب بشخصية العم محاد رحمه الله فهو رجل طيب بشوش فارع الطول بشعر كث يتدلى على كتفية وكان يربطه بشريط جلدي بشكل محترف جميل لابسًا خنجره ومردفاً عليها بندقيته التي يحرص دائمًا على تنظيفها ولا شك أنّه الأكثر أناقة بين جميع الحاضرين وكان حريصاً على صلاة الضحى بركوع وسجود طويل ومن ثم يجلس في زاوية المكان بشكل هادئ يداعب الأطفال.

وفي المساء يعود الجميع أدراجه بعد يوم متعب ولكنه شيق مليء بالمفاجآت مما يجعل العودة حلماً لكل من حضر.

حفظ الله عُمان وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية .

alikafetan@gmail.com

 

تعليق عبر الفيس بوك