تضحيات من أجل الوطن (1ـ2)

هلال الزَّيدي *

بالرغم من مرارة القهوة، إلا أننا نستمتع بها عند الرشفة الأولى؛ لتتعود فيما بعد عليها حلمات التذوق حتى آخر قطرة؛ فمهما كانت طريقة التحضير إلا أن المرارة هي الطعم السائد في ذلك الفنجان، والحياة هي خليط من مرارة وحلاوة يصنعها الإنسان بيده لتكتمل صورها في المجتمع؛ إذاً الحاجة إلى مرارة لعلاج فرط الحلاوة شيء مهم، ومهما تعوَّد الإنسان على حلاوة الظروف، إلا أنه سيصل إلى رغبة جامحة تجعله يتنازل عن جزء منها لتستقيم الأمور بحسب الظروف التي يمر فيها. وهناك الكثير ممن يتبنون ما قاله الحكماء في مختلف العصور، خاصة أولئك الذين قالوا: "العثرات تبني النجاحات.. ولا طعم للحياة بلا سقطات وأزمات". ويقابل ذلك سواد كبير من المجتمع يتبى تلك الحكم، إلا أنه عند حدوث العثرات تبدأ التذمرات، وكيل الاتهامات خاصة إذا تعلق الأمر بالحكومات المكونة من بشر وتجارب وخبرات.

ما نمرُّ به من ظروف هو من صُنعِنا بأنفسنا على اختلاف ثقافاتنا واحتياجاتنا، ولا يمكن أن نُلقي باللائمة على فئة من فئات المجتمع عند وقوع ما لا يحمد عقباه؛ لذلك هناك مجسات تتكون عند بعض البشر تتنبأ بالعواصف التي قد تعصف بمسار الحياة، لا سيما الجانب الاقتصادي منها؛ فالحديث عن متغيرات في مستوى المعيشة شيء يجب أن تتعود عليه المجتمعات حتى تستطيع مواجهة ما تفرضه الحياة عليها في ظل انفتاح الأسواق على بعضها البعض؛ فمهما اعتزل الفرد بنفسه إلا أنه لا يمكن أن يعيش في منأى عما تُحدثه القرية الواحدة من اختلالات في توازن القوى الاقتصادية، ولا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن لا يتأثر مهما كانت توجهاته؛ لذا علينا أن نُسلم بأنَّ هناك أزمات قادمة، ولا أعتقد تستقيم الحياة بدونها.

ومع تواتر الأزمات والتحديات، فإننا بحاجة إلى تضحيات تؤم التكافل والتكاتف المجتمعي لمواجهتها، مطبقين المبادئ التي ننادي بها في كل شاردة وواردة، وهي ما أوصى بها الدستور العظيم في كثير من ثوابته وأكدتها السنة الشريفة؛ حيث قال سيد الخلق سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا"، وقال أيضاً: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وهنا الدعوة إلى الوقوف صفا واحدا في مواجهة كل ما يعكر صفو الحياة، دون التفريق بين مؤسسة أو فرد فالكل هنا متساوون في بناء لُحمة واحدة تُنهي العثرات والأزمات التي نتعرض لها أو تلك التي تتكون إرهاصاتها أمام أعيننا؛ لذلك لا يمكن أن نقول بأن الحكومات والخطط المرسومة هي من تتحمل القصور الذي قد يحدث؛ لأن الحكومة تتكون من أفراد؛ فهم أقرباء، هم أخوة وجيران وأصدقاء؛ لذلك ومن هذا المنطلق لا يمكن أن نخلط بين تفسير الحوادث الاقتصادية التي تتعرض لها ثروات البلاد بأنها حوادث خاصة بفئة دون أخرى، ولا يمكن أن نفصلها ونحمّلها أفراد بعينهم؛ فالكل معني ومطالب بأن يقف مع التوجهات التي قد تعالج بعض القصور التي تعصف بالموازنة العامة، ولا بد كذلك من تقليل الإنفاق في جوانب معينة لسد بعض العجوزات في بنود أخرى.

... إنَّ حياة الرفاهية التي وضعها وصنف شروطها بعض المنظّرين هي مسألة تعتمد على استنتاجات واجتهادات فردية لا يمكن أن تُسقط على الواقع أو تعمم على كافة المجتمعات؛ لذلك فالتنازل عن جزء من الرفاهية غير الواعية في صلاحيتها في بناء المجتمع أو تلك التي تقود إلى إيجاد فكر مستهلك خامل كسول، مبدأ حكيم وضرورة حتمية، حتى نستطيع أن نواجه التحديات التي تُفرض على الحكومات قبل الأفراد، وهذا من مبدأ الشراكة الاجتماعية التي ننادي بها في كثير من أحاديثنا، فلنكف عن التذمر والتحليل العقيم الذي سيشغلنا عن إيجاد الحلول الناجعة في مواجهة صعوبات الحياة على مختلف جوانبها؛ لأنَّ الحديث لمجرد الحديث سيكلفنا الكثير من الوقت والجهد وربما الصحة الجسدية؛ فلننتبه لأنفسنا حتى يكون مجتمعنا قادرا على حل المشكلات التي تتكون عبر انصهار الأفراد مع بعضهم البعض، ولا أعتقد أنَّ هناك حكومة لا تواجه صعوبات أو إخفاقات.

الطريق إلى حياة متكاملة وأفراد متشادين كالبنيان المرصوص يحتاج إلى تضحيات وتنازلات في كثير من سبل الرفاهية "القاتمة"، ومن واجب الفرد في المجتمع -مسؤولا أو فردا عاديا- أن يرد ولو الشيء البسيط لهذا الوطن، ولا يمكن أن نتناسى أوقات الرخاء وننسف الحسنات إذا وقع خلل أو سيئة معينة أيام الشدائد؛ لأنَّ الجميع يؤمن بحوادث العصور وما تخلفه من متغيرات، وهنا دعونا نشبه التحديات الاقتصادية ورغبة الحكومة في تقليل النفقات لإسعاف عجز الميزانية بعدوٍ قادم علينا جميعاً، وذلك من أجل الالتفاف في خندق واحد ونقاوم أي عدو يريد أن يشق هذا البنيان الذي أصبح مضرب المثل في كثير من دول العالم؛ فلماذا لا نظهر وطنيتنا في هكذا مواقف؟ ولماذا لا نثبت لأنفسنا بأننا شعب متكاتف ومتعاون كما كنا نتحدث دائما؟

عند الحديث عن الوطنية والتعاون، نعود بالذاكرة إلى أيام "الأجواء المناخية كجونو، وفيت...وغيرهما، فكيف استطعنا أن نقف ونعيد بناء هذا الوطن؟ وكم استطعنا أن نثبت للمتربصين أننا لسنا بحاجة إلى مساعداتهم؟ فهل مثلا: تلك الحالات كانت مجاملات؟ لا أعتقد، ولا يمكن أن نرضى أن نسميها بذلك؛ إذاً دعونا نتفكر ونستعد لما هو آت، ودعونا نتنازل لهذا الوطن عن جزء من رفاهيتنا لأنه يستحق المزيد، ومن غرس بذرة فإن حصادها سيكون لأجيال قادمة، ولعل ما نتنازل عنه في هذه الفترة سيجنيه أبناؤنا في فترات مقبلة؛ حتى يكون لنا موطئ ذكر لأحفادنا عندما يتحدثون عن تضحيات بناء الوطن؛ لأن أجدادنا خاضوا حروبا ضروسا من أجل وحدة هذا الكيان، وكم مرة تفاخرنا بتلك الأمجاد.. وهنا نحن نحتاج إلى تنازلات فقط، وليس خوض حروب! فلنتفكر حتى تستقيم الحياة.. وتأكدوا إن كان هناك متقاعس في أداء واجبه وتنفيذ صلاحية مسؤوليته، فلن يستمر لأن ما بني على باطل فهو باطل، وكل فاسد سيجني ثمار فساده عاجلا أم آجلا؛ لأن الأدلة واضحة للعيان، ففرعون علا في الأرض، حتى جاء حكم الله فجعله آية للناس.

------------------

همسة:

"إنْ كان فنجان القهوة أو كوب الشاي الذي يُزين مكتبك كل صباح على حساب موازنة الدولة؛ فمن الممكن أن يكون من حسابك الخاص كجزء من التضحية. وإن كانت سيارة المؤسسة "الوزارة" هي التي تستخدمها في كل يوم لإنهاء واجبك تجاه الوطن، فمن الممكن أن تتنازل عنها وتستخدم سيارتك الخاصة لتتوسع دائرة التضحيات لديك. وإن كان "البوفيه" المستخدم في اجتماعات دائرتك من ميزانية المؤسسة، فيمكن أن تُضحي به في اجتماعيْن، وتدفعه من جيبك وتحتسبه صدقة لوجه الله. وإن كُنت تستخدم هاتف "المكتب" في كل شاردة وواردة، عليك أن تقلل الاستخدام وتعتمد على هاتفك في مكالماتك الخاصة؛ لأنها ليس بوجه حق. التضحيات كثيرة ودقيقة.. فقط نحتاج إلى تمحيص الحياة اليومية دون توسيع دائرة التذمر أو المقارنة مع "س" من الناس.. فالوطن فوق كل شيء".

 

* كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك