المرأة .. العورة والعار والحجب

رحاب أبو هوشر

هل نعيش حقا في القرن الحادي والعشرين؟ هل عبرت مجتمعاتنا تحولاتها، وعاشت حقا نهوض منتصف القرن الماضي، الذي تؤرخه الوثائق والذكريات، أم أننا عبرنا كل ذلك باعتباره سحابة صيف، وبقينا هناك، مطلع القرن العشرين أو ما قبله؟ سنتساءل أيضا عن هدف وأثر انخراط الرجال والنساء طوال السنين في التعليم والعمل، على تحرر المجتمع من المفاهيم الذكورية وأشد تعبيراتها تخلفا، والاعتراف بإنسانية المرأة وحقوقها، إن كانت الانهيارات في المجتمع أفضت إلى انسحاب بالذاكرة، ليعاد إنتاج مفاهيم ذكورية، كنا نظن أننا تجاوزنا بعض مصطلحاتها ذات الدلالات غير الإنسانية بداهة، أو أنها إن وجدت ففي المناطق النائية، أو تقتصر على بعض البسطاء والأميين فقط، ممن يعتبرون زوجاتهم "عورة"، والحديث عنها عيبا اجتماعيا يطيح برجولتهم، حتى رأيت أطباء ومهندسين وفنانين يشيرون إلى زوجاتهم بوصف "العائلة" و"الجماعة"!

وثمَّة "مثقف" يفخر بأنه يذكر أسماء أخواته على الملأ، ويعلن بأنه يحترمهن ويحبهن! إنه يطالبنا بالتصفيق له، بل والانبهار بوعيه الاستثنائي. كيف لا وهو لا يخجل من ذكر أسماء إناثه؟! وحتى يكتمل المشهد المزري، سنجد معلقا يقرعه ويلومه على ذلك؛ فالأخلاق والقيم الإسلامية تقتضي منه المحافظة على "شرفه"! وبينهما عديدون يشدون على يد المثقف، ويؤكدون أنهم لا يجدون حرجا من معرفة الناس لأسماء أخواتهم وزوجاتهم، ونساء يطرينه ويثنين على انحيازه لإنسانيته!

عاد اسم المرأة ليكون "عورة" في أوساط اجتماعية كثيرة، بعضها لم تعرف المرأة في ثقافته التاريخية هذه المكانة المتدنية أبدا. قبل سنوات كان كثير من الناس يستهجنون عدم كتابة اسم العروس في بعض بطاقات الدعوة ويسخرون من ذلك. أما اليوم فأصبحت "كريمته" تمثل معظم العرائس، وتمام الفضيلة.

ثمَّة مكتسبات حققتها المرأة، لكن ما أحدثته كان تغييرا شكليا زائفا، ولم تؤثر في جوهر وضعية المرأة في بنية ثقافة ذكورية ممتدة التاريخ، قاومت بشراسة أي محاولة لإنتاج مفاهيم وعلاقات جديدة قد تسهم في تغيير جدي؛ فالواقع أن المرأة بقيت كلها عورة وعارا، تستوجب الحجب والقمع والمصادرة، وإن اختلفت المستويات والأساليب نسبيا.

المغني العراقي "مسعود عمارتلي" الذي عاش ما بين 1897-1944، وقدم أجمل أغاني التراث العراقي المعروفة إلى اليوم مثل "بويا محمد"، لم يكن إلا "مسعودة" المولعة بالغناء، والقادمة من العمارة في الجنوب إلى بغداد، متنكرة بلباس رجالي، واسم ذكوري لازماها حتى مماتها. كان عليها التحايل بحجب أنوثتها وإلغاؤها، لاتقاء قسوة وسطوة ثقافة لم تكن تتسامح مع امرأة تغني في ذلك الزمن، ولتجنب انتهاك الذكور لها إن عرفوا حقيقتها، وتذكر مصادر أنها سلكت وعاشت حياة رجل تماما بعد ذلك. وتتضارب الروايات حول نهايتها، بين موتها بمرض التدرن، وقتلها بالسم بعد أن كشفت حقيقة كونها امرأة، وإن كانت الرواية الثانية صحيحة، تكون "مسعودة" دفعت ثمن كونها امرأة مرتين، مرة بحجب أنوثتها، ومرة أخرى لأنها سعت لانتزاع مكان لها في الحياة.

وإن كان ثمة مفارقة زمنية، إلا أنها أيضا مفارقة موضوعية، أن نجد نساء حتى اليوم، اي بعد قرن تقريبا من حياة "مسعودة عمارتلي"، ما زلن يلجأن للتنكر بملابس الرجال، وسلوك مسلكهم، حتى يمكنهن العيش أو العمل في بعض البيئات والأوساط، حفاظا على كراماتهن ومنعا لاستغلالهن أو الاستقواء عليهن. نالت لقب الأم المثالية لهذا العام في مصر، سيدة تنكرت في ملابس الرجال لمدة 43 عاما، خوفا من مضايقات الرجال لها، كما قالت، في مجتمع صعيدي تقليدي ومتزمت جدا تجاه المرأة، ويرفض وجودها في الحياة العامة.

وأفظع أنواع الحجب الممارس ضد المرأة وأشدها عنفا، جرائم القتل المسماة بجرائم "الشرف"، والتي تدفع فيها المرأة وحدها دائما ثمن شرف اجتماعي مبهم، في حقيقته ثمن اعتبارها عارا، ومهما كانت الجريمة الحقيقية وأيا كان المجرم. آخر تلك الجرائم المروعة حدثت قبل أيام قليلة في ألمانيا، وكانت ضحيتها فتاة كردية من شمال سوريا تبلغ عشرين عاما. بعد أن تعرضت "روكستان" للاغتصاب في سوريا على يد ثلاثة رجال، هربت إلى ألمانيا قبل عامين بحثا عن حياة آمنة بعد الجريمة. التحقت بها أمها لتقتلها، حسب التحقيقات الألمانية، حيث عثروا على تسجيل صوتي لها قالت فيه: "اعتدى علي 3 رجال. منذ ذلك الوقت، اعتبرتني عائلتي غير نقية. أمي وإخوتي اعتدوا علي، وقالوا لي إنني أستحق الموت".

تعليق عبر الفيس بوك