مفهوم التغيير عند القائد السلطان قابوس

عبدالمنعم همت

عندما قرأ ابن سينا فلسفة أرسطو انبهر بمفاهيم أرسطو الخاصة بالصفات والقدم والأزلية والخلود والأبدية. حاول أن يخلق مقاربة وتصالحا بين معتقده الفلسفي المتأثر بأرسطو وعقيدته كمسلم فوقع في التناقض في معظم ما ذهب إليه فشغل نفسه في هذا المجال الفلسفي بأن يطوع النص القرآني ليتماشى مع فلسفة أرسطو، والتي ظنَّأنها أعلى مراتب المعرفة الإنسانية. هذه المجهودات أخذت منه الكثير من الوقت لم يكن ليحتاج إلى ذلك لو أنه فَهِم موروثه والدين الإسلامي، وانطلق من هُويته ليثبت تلك القضايا الفلسفية. ولكن عندما ابتعد عن التقليد حقَّق نجاحا مُنقطع النظير في المجال الطبي، ونبغ فيه حتى امتدت شهرته إلى هذا الزمان.

هذا التمهيد يهدف إلى أنَّ نقل مفاهيم وتجارب الشعوب دون مراعاة ودراسة للواقع يخلق خللا وعطبا معرفيا قد يصيب المجتمع المنقول إليه بداء متلازمة عوز الهوية.

عندما وصل السلطان قابوس للحكم كانت سلطنة عمان تعيش حالة ما قبل الدولة. فلم تكن دولة بالمفهوم المعروف والغالب عليها حالة من التمرد والشلل. التحديات لم تكن محصورة في الاقتصاد والتنمية، بل كان التحدي الأكبر في بناء الإنسان، والذي هو الركيزة الأساسية في النهضة.. في هذه الحلقة نركز على تطور المجتمع القبلي العماني:

خطوات تنظيم

في العيد الوطني الأول (23 يوليو 1971) تبلورتْأفكار السلطان قابوس لحل معضلات بلاده؛ حيث قال:

"فخطتنا في الداخل أن نبني بلدنا ونوفر لجميع أهله الحياة المرفهة والعيش الكريم، وهذه غاية لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق مشاركة أبناء الشعب في تحمل أعباء المسؤولية ومهمة البناء، ولقد فتحنا أبوابنا لمواطنينا في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، وسوف نعمل جادين على تثبيت حكم ديمقراطي عادل في بلادنا في إطار واقعنا العماني العربي وحسب تقاليد وعادات مجتمعنا، جاعلين نصب أعيننا تعاليم الإسلام الذي ينير لنا السبيل دائما".

الخطاب يحمل برنامج عمل واقعيًّا يهدف إلى المشاركة الشعبية، والحكم الديمقراطي العادل من صميم تقاليد وعادات بلاده، إضافة إلى تعاليم الإسلام لتنير الطريق.

وبقراءة تجربة السلطان قابوس كمفكر وقائد، نجد أنَّه استطاع أن يدرس الواقع العماني الزاخر بالتعدد القبلي والإثني والتنوع الديني والمذهبي. فانصهرت كل هذه المكونات لتشكل هوية عمانية خالصة ترسم خارطة الطريق لدولة عصرية وإنسان رائد.

من العصبية إلى الدولة

تعريف العصبية (لغةً):

العصبية في اللغة: مشتقة من "العَصْبِ"، وهو: الطَّيُّ والشَّدُّ. وعَصَبَ الشيءَ يَعْصِبُهُ عَصْبًا: طَوَاه ولَوَاه، وقيل: شدَّه. والتَّعَصُّب: المحاماة والمدافعة.

العصبية في الاصطلاح:

قال الأزهري في "تهذيب اللغة": ((والعصبية: أن يدعو الرجل إلى نصرة عَصَبته والتألُّبِ معهم، على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين)).

وعرَّفها ابن خلدون بأنها: ((النُّعَرَةُعلى ذوي القربى، وأهلِ الأرحام أن ينالهم ضَيْم، أو تصيبَهم هَلَكة... ومن هذا الباب الولاء والحِلْف، إذ نُعَرَةُ كلِّ أحدٍ على أهل ولائه وحِلْفه)).

التكوين القبلي هو الشكل السائد في سلطنة عمان شأنه شأن كثير من الدول العربية، لكل قبيلة أعراف خاصة تميزها عن بقية القبائل وبعضها يكون مشتركا مع قبائل أخرى. هذه الأعراف تمثل الدستور غير المكتوب والذي بموجبه تدار شؤون القبيلة. القبيلة ينصاع فيها الفرد للجماعة والحكم فيها بالسلوك الجمعي مثل الزواج والثأر والفدية. كما أن هنالك أصولا تنظم النسب الدموي والتدرج السلالي الذي ينظم توزيع المراعي ومناصب القوة والنفوذ. على قمة هذا الهرم يوجد شيخ القبيلة والذي يكون في الغالب هو الأكبر سنا وتجربة ورجاحة في العقل، ومدافعا عن حقوق الفرد والجماعة داخل القبيلة، وهو ممثل القبيلة في معاملاتها.

تحديث مفهوم القبيلة

كانت القبيلة، ولا تزال في بعض الدول، دعوة للتعصب والانغلاق. ولكن عند وصول السلطان قابوس للحكم لم يقفز على الواقع ويذيب القبيلة، بل حافظ على هذا الموروث وطوَّره لتصبح القبيلة مساهمة في الفعل السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي..مستفيدا من شكل الانضباط والدقة الموجود في تكوينها؛ لأنَّ انفراط عقد القبيلة وتفكيكها يعني القفز على الواقع وتبني فكرة بناء مجتمع عماني على طراز غربي فاقد لهويته العربية الأسلامية. وفي هذا نجد أن المفكر القائد قابوس، قال:لقد أثبت التاريخ بما لا يدع مجالا للشك أن الأمم لا تتقدم ولا تتطور إلا بتجديد فكرها وتحديثه، وهكذا الشأن في الافراد.

القبيلة الآن تشارك في الفعل المدني، تساهم في بناء عمان، ولكنَّ الساعي لتخطي الواقع وتجاوز التطور الطبيعي لن يحصد إلا عاصفة من الخواء والفعل المدني السلبي والتشظي المعرفي والسياسي.

وقال: الجمود داء وبيل وقاتل عاقبته وخيمة ونهايته أليمة؛ لذلك عقدنا العزم منذ اليوم الأول للنهضة المباركة ألا نقع في براثن هذا الداء.

لم يقع قائد عمان في فخ الجمود والانغلاق المهلك. استوعب أن القبيلة يمكن أن تتطور تطورا إيجابيا.

إعادة تشكيل القبيلة

تمكَّن السلطان قابوس كمفكر وقائد أن يقرأ التاريخ ويستوعبه جيدا. فالتكوين القبلي واقع وفي حكم المؤكد أن هذا التكوين يحتوى على جوانب إيجابية وأخرى سلبية. الذكاء يكمُن في توجيه الإيجابي والتخلص من السلبي، خاصة وأن القبائل العمانية بينها مشتركات؛ مثل: الهوية العربية الإسلامية، والتي بدورها تساعد على الاستقرار. استوعب القائد المفكر متطلبات بلاده من البداية وبالنظر إلى رده على صحيفة الأهرام المصرية 8 يوليو 1971م حول الحريات: (إنَّ أكثر الناس قدرة على الحفاظ على الحرية، هو المواطن نفسه،إن استطاع أن يستعمل حريته في الحدود المعقولة والمقبولة، فلن يعرضها لأي خطر).

نزع السلطان قابوس عن القبيلةفي عمان، ثَوْب التعصب وألبسها الوطنية. فانتقلت القبيلة من التفكير في شؤونها الداخلية فقط إلى الارتقاء الفكري، فأصبحت القبيلة تنبض بحب الوطن وحب غيرها من القبائل فتم التصالح الاجتماعي.

قال: لقد كان واضحا لدينا أن مفهوم التراث لا يتمثل فحسب في القلاع والحصون والبيوت الأثرية...وغيرها من الأشياء المادية، وإنما يتناول أساسا الموروث المعنوي من عادات وتقاليد، وعلوم وآداب وفنون، ونحوها مما ينتقل من جيل إلى جيل، وأن المحافظة الحقيقية على التراث لن تتم ولن تكتمل إلا بإعطاء كل مفردات هذا المفهوم حقها من العناية والرعاية.

لقد فهم جلالته معنى التراث ولم يضعه في زاوية ضيقة ويحصره في القلاع والحصون...إلخ واستوقفه التراث المعنوي.

هذا الرجل -وبذكاء مدهش- عرف أنَّ القبيلة هي منظومة اجتماعية، سياسية،إدارية وقضائية. حافظ على الموروث الجميل فيها وخلع عنها رداء التعصب الأعمى للقبيلة وحوَّل هذه العصبية إلى حب الوطن. فبينما تتطاير النعوت والألقاب والاتهامات في دول أخرى مثل خوارج نواصب فصار طحينهم تذروه الرياح، هنا في عمان يرتفع الحس الوطنيالهوية العمانية فوق كل عصبية قبلية ومذهبية،فالكل عماني.

نتناقل بفخر تعريفات الثقافة لبعض العلماء غير العرب فنذكر بفخر ما قاله العالم الأمريكي هيرسكو فيتس في تعريفه للتراث بأنه "المرادف للثقافة" في المقابل، بل أعلى من ذلك، علينا أن نستقي من مصادر المعرفة عند المفكر القائد قابوس. فهو قد قدم ولا يزال منهجا نهضويًّا حداثيًّا موطدا عراه بالموروث العماني الضارب في القدم والحيوية.

ونخلص إلى تعريف قابوس للتراث العماني، والذى نستطيع أن نقول إنه عرفه كالآتي:ما ورثناه من قلاع وحصون وبيوت أثرية...وغيرها، إضافة إلى العادات والتقاليد والعلوم والآداب والفنون ونحوها مما ينتقل من جيل إلى جيل.

mydocument950@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك