مجتمعنا المريض

د. سيف المعمري

أعتذر للجميع على استخدامي لهذا العنوان لمقال هذا الأسبوع إلا أنّي وجدت نفسي مضطرا لأن أكون صريحا جداً في الحديث عن إشكالية كبيرة نعاني منها، وما فجّر بداخلي هذا الحديث هو حادثة الحجاج العمانيين المؤسفة والمبكية والمؤلمة التي حالت بينهم وبين معانقة الأجواء الروحانية للحج هذا العام، وربما يعتبر البعض الأمر بأنّه مجرد حادث من حوادث الاستغلال والفساد الكبرى التي انصدم بها مجتمعنا خلال السنوات الأخيرة، ولا يجب أن نضخم من الأمر وعلينا أن نطوي الصفحة كما طويت قضايا فساد كبرى استنزف المتهمين فيها من المال العام ما يكفي لأن نتجاوز التحديات الاقتصادية الناتجة من تدهور أسعار النفط، ولكن الصفحة لا يمكن أن تطوى بهذه السهولة وإلا فنحن لا نريد أن نقف في مواجهة أنفسنا بجوهر المشكلة الحقيقي في كل ما جرى وسوف يجري.

الحقيقة أننا لم نعد ذلك المجتمع الذي يشيد الجميع بطهارتهونزاهته، إننا نمر بمنعطف أخلاقي حاد.. والخطورة التي نواجهها ليست في تدهور أسعار النفط لكن الخطورة تكمن في تدهور أخلاقنا لدرجة تصل إلى استغلال رغبة روحية لأداء مناسك الحج، ونجعل بعض إخوتنا المواطنين لأول مرة عالقين على الحدود..كما جعل البعض منهم يوما ما عالقين على أبواب الشركات يستجدون مديريها الوافدين ليتكرموا بتوظيفهم في وظائف لا يكفيهم دخلها ليعود إلى قراهم في نهاية كل أسبوع.

إنّ هناك صورة أخرى تتشكل معالمها عن العماني ترتبطبجوانب سلبية أكثر من كونها إيجابية، فمفردات "الاستغلال"، و"الانتهازية"، و"السرقة"، و"الغش"، "وعدم الالتزام"، أصبحت جزءًا من مفردات حياتنا اليومية، ولم يعد أحد قادرا على أن يحمي نفسه منها، فلو ذهبت لعقد اتفاقية مع مقاول فعليك أن تحترس، ولو ذهبت إلى "سوق السمك" فعليك أن تحذر من الغش، ولو طلب منك عمل من مسؤولك فعليك أن تحترس، فكم علينا أن نحترس إذا كان هذا التدهور الأخلاقي أصبح من أعلى مستوى إلى أبسط مواطن، من الوزير الذي كان يفترض أن يكون أمينا على تنمية وطن..ووصل إلى "المقاول" الذي يذهب بالناس إلى الأماكن المقدسة، فما الذي جرى حتى نصل إلى هذا الحالة ونحن لا نزال مجتمعا صغيرا جدا، كيف سيكون الوضع لو كان عدد سكاننا 80 مليوناً؟ وماذا سنقول لأبنائنا الذين يشاهدون كل هذا التدهور الأخلاقي على مستوى المؤسسات، وفي الحياة العامة، هل علينا أن نقوم بتضليلهم وجعلهم ضحايا في المستقبل القريب، أمّا علينا تحصينهم حتى لا يتعرضوا إلى ما تعرضنا له؟ أننا في لحظة فارقة جدا..وعلينا أن نتحلى بالشجاعة لنصارح أنفسنا بكل هذا قبل وفات الأوان.

وأنا أكتب هذا المقال كنت استرجع خبرتين مؤلمتين للاستغلال مررت بهما منذ سنوات على أيدي اثنين ممن قد يعتبرون من النماذج التي تعتبر أهلاً للثقة في المجتمع، ولكن يبدو ألا مكان للثقة في بيئة اجتماعية واقتصادية مريضة، الأول كان يعمل "إماماً لمسجد"، كان يفترض أن يقدم لي خدمة من الشركة الخاصة التي يملكها، ولكن ذهب المال..والخدمة..ولا يزال الرجل كلما التقيته صدفة وطالبته بحقي..يقسم لي "بالله" أنه سيوفي ولكن لا يوفي، أمّا الآخر وكان على معرفة بهذا فكان يعمل "قاضيا"، وأصبح بعد تقاعده يدير شركة شاءت الإرادة الإلهية أن يكون لي معاملة معها..حيث قمنا بعمل عقد لضمان حق المتعاقدين، وما صدمني منه ليس عدم تأدية حقي..ولكن صدمني منه التباهي بمعرفته بقدرته على التهرب من القانون بحكم خبرته على كرسي القضاء..حيث قال لي عندما ذهبت للمطالبة بحقي، أفعل ما شئت..فالعقد الذي معك لا يعتد به..وأنا عملت بالقضاء وأعرف ذلك..بل إنه كان يفتخر أمامي بأنّه أقل استغلالا من الرجل الأول..حين ذكرت له حكايتي معه، فهل أصبحنا نتفاخر باختلاف درجة ممارستنا للاستغلال، بدلا من أن نتفاخر بالأمانة والنزاهة؟ هذا سؤال لا أعرف إجابة عنه في اللحظة الراهنة..ولا يتسع المقام لذكر كل القصص الواقعية التي عايشتها مع الذين تعرضوا لها مع مؤسسات حكومية ومسوؤلين كبار وصغار وأصحاب شركات ويؤسفني أن أقول أنّ كل هذه القصص تجعل النزاهة في مجتمعنا استثناء بينما يصبح الاستغلال والانتهازية قاعدة، فإلى أين نتجه في هذا المجتمع؟، ونحن نفرط في أثمن ما نملك، كيف نستطيع أن نبني وطنا قويا؟..وأخلاقنا متدهورة..كيف نستطيع أن نصنع ثقة؟ والنزاهة أصبحت عملة نادرة نبحث عنها في كل الوجوه، وفي كل الأماكن والمؤسسات ولكنّنا عاجزون عن الإمساك بها.

علينا أن نقف ونتأمل في واقعنا..لأننا إذا فرطنا في الفضائل الصغيرة والكبيرة التي يدعو إليها ديننا الإسلامي، وتؤكد عليها كل المجتمعات التي تنشد التقدم، لا يمكن أن ننهض ونتغلب على التحديات التي تواجهنا، والتاريخ خير شاهد على ذلك..وكما قال عبدالرحمن منيف "المشكلة ليست في الصعوبات..فلكل مرحلة صعوباتها وتحدياتها، وأيضا ضحاياها، ولكن المشكلة هي في انعدام اليقين؛ في الهزيمة الداخلية، التي نعيشها مما يجعل الكثيرين حائرين ثم يائسين".

إننا حائرون ولكننا حتما لسنا يائسين؛ وأقول بكل صراحة أن معركتنا ليست مع تدهور أسعار النفط لكن معركتنا الأصعب هي مع هذا التدهور الأخلاقي الذي ينخر في مجتمعنا..مع هذا التنافس من أجل التفوق في الاستغلال، مع هذا التنافس في الاقصاء والإزاحة لكل شيء جميل نمتلكه في هذا البلد، آن الأوان لنستيقظ، آن الأوان لنستيقظ، آن الأوان لنستيقظ، فلو طال سباتنا لن نتمكن من الانتصار في معركتنا لاستعادة أنفسنا.

تعليق عبر الفيس بوك