حين تتآكل الذاكرة

أسماء القطيبي

ذكر التقرير الدولي للزهايمر 2015 أنّ شخصًا واحدًا كل ثلاث ثوان يصاب بالخرف في العالم، ومن المتوقع أنا يزداد عدد المصابين بالمرض إلى ثلاثة أضعاف ما هو عليه بحلول 2050 أي ما مجموعه 131.5 مليون شخص. دراسة صادمة وأرقام مخيفة، لأن هذا يعني أيضا أن أي واحد منا غير مستثنى من الإصابة بالزهايمر خلال السنوات القادمة. خاصة أنه ورغم الملايين التي تنفق سنويا في دراسة الحالات وتجربة الأدوية فإن الطب مازال عاجزًا عن التوصّل إلى ما يقي من المرض أو لعلاج يسيطر عليه بشكل حاسم.

إنّ الإصابة بالزهايمر أمر مخيف حقا، خاصة عندما يكون للعائلة تاريخ في الإصابة به، لأنّ القلق هنا يصبح مضاعفًا لكون احتمال الإصابة يكون أكبر. أحد أوجه المعاناة في المرض أنه لا يأتي غالبا دفعة واحدة، بل إن الأحداث تبدأ بالتسرب من الذاكرة شيئا فشيئا، فيفاجأ الشخص بنسيانه بعض الأماكن، بعض الشخوص والمواعيد، وهكذا دواليك حتى يتمكن منه الخرف فلا يعود قادرًا على التمييز، وهو أمر منهِك لأنّ الشخص يشهد فقدانه السيطرة على حياته دون أن يتكمن من فعل شيء. ما يحدث يمكن تشبيهه بالموت إلا أنه لا يضع نقطة النهاية.

يكاد الزهايمر هو المرض الوحيد الذي تكون معاناة الآخرين فيه أكثر من معاناة المريض نفسه، أحبابه وعائلته، أولئك الذين يراقبون بعجز تطور المرض، ورغم أن من يحبونه يظل محتفظا بنفس الملامح، وربما بصحة بدنية أفضل من تلك التي يتمتعون بها إلا أنه لا يصبح هو. بل شخص آخر يتوجب عليهم محبته والعناية به. مؤخرًا شاهدت فيلم Still Alice)) وهو فيلم يتحدث عن أليس هولاند، أستاذة في إحدى الجامعات، كانت تتمتع بحياة عائلية مستقرة، وتأمل في مستقبل طموح، قبل أن تكتشف إصابتها بالزهايمر المبكر، لتبدأ رحلتها في النضال من أجل الإبقاء على ذاكرتها أطول فترة ممكنة من خلال تمارين تبتكرها لنفسها. ونضال آخر في التعايش مع أسئلتها حول حياتها المستقبلية وما ستكون عليه فكانت تقول "من سيأخذنا على محمل الجد عندما نبتعد عمّا كنا عليه، فنصبح عاجزين، هزليين، وتافهين؟" لكنّها تعزي نفسها "ولكن هذه ليست شخصيّاتنا بل مرضنا". وهذا يقودني إلى تساؤل آخر وهو هل يستطيع هذا المرض الوصول إلى مشاعر الشخص العميقة تلك المتعلقة بعواطفه وأحاسيسه تجاه العالم؟ أم أنّها لا تنال إلا من معرفته بالأشياء. يقال إنّ ماركيز عندما زاره أحد أصحابه بعد فقده للذاكرة قال له: "لا أعلم من أنت ولكني أعلمُ أني أحبك".. إنّ المشاعر النبيلة لا تتعلق بالذاكرة بقدر ما تتعلق بالقلب لذا فهي لا تمس ولا تتغير.

يقدم الكثير من الأشخاص، خاصة في الدول المتقدمة، فور معرفتهم بالإصابة بالزهايمر بالتفكير في الخطوة التالية، أو ما يمكن أن نطلق عليه القرار الواعي الأخير، حيث يسعون لتأمين مستقبلهم من خلال كتابة وصايا مثل أن يرسلوا إلى مراكز رعاية في حال فقدانهم الكامل للذاكرة، بينما البعض يتخذ قرارًا صعبا في إنهاء حياتهم أو الإيعاز لأشخاص بفعل ذلك عندما يكون المرض قد تمكن منهم، فأن تعرف بأنك ستبقى عالة على الآخرين هو أمر صعب التقبل، لاسيما للأشخاص الذين لا يحظون بعلاقات وطيدة مع أسرهم، بينما الوضع في بلداننا يتخذ شكلا أكثر عاطفية حيث يحرص الجميع على مساندة المريض والتعهد برعايته طوال العمر، وكم من قصة في مجتمعنا -لابد وأنك سمعت أحدها- لأشخاص تخلوا عن طموحاتهم من أجل البقاء مع أهاليهم المصابين بالخرف. وهو أمر يستحق أن نفخر به لكونه يعبر عن جانبنا الإنساني، ويمنحنا الاطمئنان.

بينما أنت تقرأ الآن هذه المقالة انضم إلى قائمة المصابين بالزهايمر أكثر من مئة شخص، لعلهم كانوا منهمكين في تكوين حاضرهم، والتخطيط لمستقبلهم لدرجة أنهم لم يتوقعوا أن يحدث ما ينهي جميع هذه الخطط في غمضة عين، أو لعلهم سيشعرون بالامتنان للذاكرة التي لم تخذلهم طوال سنوات قبل أن تفعل بدءًا من الآن، ويأملون أن تأتي المعجزة التي تعيد إليهم حياتهم المسلوبة، لهؤلاء أتمنى أن يجد الطب علاجا شافيا، ولكم دعواتي بأنيحفظكم الله ولا يريكم مكروهًا وبأسا في أنفسكم وأحبابكم.

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك