حكاية موظف

أحمد الرحبي

برغم الشكوى في كثير من الأحيان من الملل الوظيفي الذي ترتهن به الوظيفة الحكومية خاصة، نظرا للروتين الذي يحيط بأجواء الوظيفة، إلا أنه برغم ذلك لا تعتبر الوظيفة مملة بحد ذاتها، فمما لاشك فيه أن الوظيفة من توظيف (كمصدر فعلي للكلمة) هي: الشكل العصري المختص بإدارة الشؤون المدنية بكافة مجالاتها ومتعلقاتها، إنما الملل في الوظيفة، ما يرتبط من رتابة وتكرار بها، في أدق التفاصيل المتعلقة بفضائها، وارتهان هذه التفاصيل بالوقت الذي يعد بمثابة المقدس الذي لا يجوز المساس به، بالنسبة للوظيفة كما يظهر هنا في حكاية موظف مع الملل الوظيفي.

قلت لنفسي: استيقظ أيها الجثة تعافى من مواتك، الشمس في الخارج قد غدت برتقالة صفراء طازجة يتقاسم عصيرها الدافئ المنعش الجميع، فقد كان المنبه مازال يرن منذ فترة طويلة بجانب السرير في هذيان عال دون أن أشعر به، نهضت متثاقلاً من السرير وبصعوبة كنت أميز ملامح وجهي في المرآة كان مقطباً في بؤس مريض من السهر وقلة النوم.

ساعة المنبه تشير إلى السابعة والربع ليس لدي وقت أضيعه، اكتفيت والحال هذه بتمرير فرشاة الأسنان مرتين أو ثلاث مرات في فمي باصقًا المعجون بسرعة طازجاً لم يختلط بعد، مبللا وجهي ببعض الماء كي يعود له رونقه، هرعت بعد ذلك إلى الشماعة بجانب الدولاب ودسست جسمي بخفة في إحدى الدشاديش البيضاء المعلقة عليها، كان قماشها قد تبدد إثر الكي عليه لكن لا مجال للاختيار والمفاضلة، بقيت العمامة التي تنتظرني باعتيادية يومية في ربطة دائرية جاهزة، وضعتها على رأسي وهرعت مسرعًا.

هل لمثلي أن يحلم بالانضباط خاصة بتوقيت حرج كالسابعة والنصف؟ كنت في بداية الطريق إلى المؤسسة والازدحام الذي يختنق به الشارع في تلك الذروة الصباحية يجعل المرء يغسل يديه من أي موعد أو توقيت يلتزم به بعد ساعة فما بالك بربع ساعة أو أقل من ذلك الذي تبقى لي من الوقت لكي أصل إلى المؤسسة التي أعمل بها.

كانت كل محاولات زيادة سرعة السيارة أو المناورة الخجولة مني لتخطي طوابير السيارات من الخانات الجانبية من الطريق تذهب سدى، فالطريق كان متخماً بكثافة السيارات والتي تعدو بشكل سلحفائي كسول صوب وجهة واحدة من الطريق المزدوج المسار، لم يكن بد أمام ذلك من الاستسلام خاصة وأني لست حاذقا في قيادة السيارة في مثل هذه الظروف من الازدحام، متوخيًا الحذر في هذا الازدحام، لكنني أجد أن كل هذه المبررات (الازدحام وقلة حذقي في القيادة وتوخي السلامة والحذر) لن تعفيني من النظرة المقطبة التي يقابلني بها مدير الدائرة عندما التقي به كتعبير عن عدم رضاه، وعتاب مرير منه على حالات التأخير عن العمل التي بت متورطاً فيها بشكل متكرر.

وصلت وكان الجميع قد انتظموا مثل آلة ساعة مضبوطة في دوائرهم وأقسامهم وتوجهت مسرعاً لأدلف مباشرة إلى المكتب تحاشياً لمفاجآت ضارة بل مؤذية، كمصادفة المدير أو المدير العام وليس أقله أذى في هذه المفاجآت الوشاة والساعين بالتقارير الإدارية الشفوية عن الالتزام بالقوانين والانتظام بالوقت في المؤسسة، دخلت إلى المكتب وقد استقبلت من اللحظة الأولى بنظرات زميلي الشامتة والذي سارع إلى القول: مدير الدائرة سأل عليك (وكأنّه بذلك حقق انتصارا كبيرا).

لم أعبأ بذلك وصرفت همي في البحث عن العامل الذي يقدم الشاي فوصولي متأخراً عن أوان (حفلة الشاي الصباحي) في الدائرة يتطلب جهداً في التودد إليه من أجل الحصول على كوب شاي، والذي تأتي في كل مرة موافقته على مضض متحججاً أنّه أتى لي بالشاي ولم يجدني.

جرعت الشاي بجرعات كبيرة برغم سخونته فقد اتصل المدير أثناء ذلك يطلبني بنبرة هادرة بالغضب والغيظ الشديدين، أف... لقد سئمت وأنا استمع في كل مرة إلى توبيخاته وملاحظاته لي.. ذلك بات يخلف مرارة الإهانة والذل في نفسي، لن أواجهه هذه المرة بصراحتي الشديدة كعادتي، لن أواجهه باعتراف بليد بأخطائي وكأنني تلميذ مذنب، سوف أصمد أمام سطوته وأواجهه بالأعذار والتبريرات التي يجب أن اخترعها بخيال خصب، لن أسمح له.. لن أكون صيدا سهلا هذه المرة لسلطته الإدارية.

لكن هل أقول له مبررا أن الملل في الوظيفة وما يرتبط بها من رتابة وتكرار في أدق التفاصيل المتعلقة بفضائها وارتهان هذه التفاصيل بالوقت الذي يعد بمثابة المقدس الذي لا يجوز المساس به، هو الذي يدفعني إلى التأخر عن أوقات الحضور وعدم الالتزام بها ؟.. إنه من المستحيل عليه بلا شك إمكانية تفهم هذا التبرير واستيعابه هو الذي يعد نفسه في منصبه الوظيفي القيم والحامي للوقت الوظيفي والمنظم له بلا منازع.

تعليق عبر الفيس بوك