ترنيمة قلب وشعب

عائشة البلوشية

لن أتحدَّث عن معنى يوليوفي قلب مواليد الثلاثينيات إلى نهاية الستينيات من القرن الماضي من العُمانيين؛ ذلك الجيل الذي عايش حقبة العزلة والانغلاق، وكابد الألم والمرض، ورأى شبح الموت يلوح في الأفق مع كلِّ داء ينتشر، أو مرض عُضَال، أو سار يقطف بأمر ربه الأرواح صغارا وكبارا، أو مَنْ كان منهم يحظى بالذهاب إلى الحج ليمر على معالم بدايات العصر الحديث، من علم وطب وتكنولوجيا تواكب تلك الحقبة، وبلاده تعيش بعيدة كلَّ البُعد عن أبسط الأمور، أو منهم من عاش مغتربًا يعمل أو يتعلَّم ويحلم بالعودة إلى بلاده الغالية عُمان، ليرى بلاده في مصاف الدول، ويتلقى كتابا من أهله يخبره بأن أحد والديه أو زوجته أو ربما ابنه قد فارق الحياة بسبب عدم توافر العلاج؛ فتتدحرج من مقلته دمعة حسرة وقلة حيلة.

ولن أتحدث عن معنى يوليوفي قلب مواليد السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي؛ ذلك الجيل الذي سمع عن معاناة أهله، ولم يتعرَّف على كثير ممن ذهبوا قبل ولادته؛ فأصبحوا ذكرى غير موثقة بالصور في كثير من الأحيان، ولكنه عاش حظوة النهضة منذ خطت خطواتها الأولى، فأقبل على العلم ينهل منه ليبني مع قائد نهضته، الذي آلى على شعبه المنة.. وقال: "سنعلم أبناءنا ولو تحت ظلال الشجر"، فدرس في كل البيئات التعليمية بدءا من العرشان والخيام، وحتى وصل إلى المباني العصرية الحديثة، وتطبب في المستشفيات المنتشرة، في ربوع بلاده، ثم ارتقى إلى التعليم الجامعي داخل البلاد وخارجها.

ولن أتحدث عن معنى يوليوفي قلب مواليد الألفية الحديثة؛ والذين يبلغ أكبرهم سنا الخامسة عشرة من العمر اليوم.. هذا الجيل الذي تشرَّب حُبَّعُمان وقائدها من حكايات الآباء والأجداد، وتعرَّف على الآلاء العظيمة من خلال خيوط التنمية المطرزة لنسيج النهضة من حوله في كل شبر على هذه الأرض الطيبة؛ فحاول أن يعبر عن وجوده وعن حبه لبلاده من خلال مدرسته أو مشاركاته المجتمعية أو الثقافية.

ولكنَّني بعد أن قرأت ما زفَّته مواقع التواصل الاجتماعي، أمس الأول، من عبارات السعادة والبشر عندما تحرَّكت قافلة الرَّكب الميمون، مُقلة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- متوجهة إلى حصن الشموخ، وكأني بالشباب قبل الكهول يقولون: "لبيك وسعديك يا تاج القلوب، هاك منا كل قلب يرصف لك الدرب، وخذ منا خالص الدعاء في حِلِّك وترحالك بكل حب؛ لتسعد ولاية منحوتزدان بوجود جلالته في ربوعها".

سأحكي لكم حكاية يوليوالمجيد مُعنونة بـ"ترنيمة قلب وشعب"، ﻷسترسل في حكاية قلب أحبَّ شعبه حبًّا جمًّا، وشعبا أصبح ينبضُ من خلال ذلك القلب، كان الوقت نهار الثالث والعشرين من يوليومن عام 1970م،عندما خرج ذلك الفارس المغوار مُترجلا من الحصن في مدينة صلالة جنوب السلطنة، واثقَ الخطوة، يمشي وكأنه يقول "لن أكل من المسير مهما كانت وعورة الطريق، ولن أسأم من الإنصات إليكم بقلبي".. بدا مُمتشقا بشته الأسود حاملا سيفه في يمناه، فعَلَت صيحات الفرح برؤيته، وعَلَت الزغاريد بطلته، وتراكضت الأرواح والقلوب قبل الأجساد سعداء بهذا السلطان الشاب؛ فحملوه على الأكتاف في حركة عفوية لفرط حبهم له، ثم أنزلوه بعد تدخُّل الحرس؛ ﻷنهم يدركون أنه يريد أن يبدأ في العمل من اللحظة الأولى؛ فخطب فيهم خطبته الأولى التي تبكينا جميعا كلما سمعناها، فقد وعد فأوفى، وأعطى من شبابه فأجزل، وبسط الأمان فعاد من اغترب وهو يرجو أن يساهم في البناء والتعمير مع هذا السلطان الحكيم، وبذل من التحق بسلك التعليم الجهد لينال أعلى مراتب العلم فيدفع بعجلة التنمية، وأحبَّ الأطفال "بابا قابوس"، ورسموه في أحداقهم، قبل أن يعتمروا صورته وشاحا في أعناقهم، شعب بكل أطيافه وأجياله أحب سلطانه، حُبًّا أبكاهم دمًا عندما طاردتهم أشباح بعض الفضائيات بأنباء "مختلقة". شعب ينتعش وتدب في أوصاله ذبذبات الفرح كلما أحسَّ بتحرك سيده في شرايين الأرض، ليزور هنا، ويصلي هناك، ويطل على تلك البقعة، ويقيم في ذلك الامتداد، إنها ترنيمة سرمدية من حب أسطوري رائع.. أسأل الله تعالى أن يديم علينا هذه النعم من الأمن والأمان والتلاحم بحب حول ولي أمرنا -حفظه الله ورعاه- والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات.

توقيع: "هنيئا لك يا منح، عيشي أيام يوليوهذا العام وأنت عروس الخامس والأربعين، وعيشي العيد أعيادا".

تعليق عبر الفيس بوك