الابتلاء والاختبار

زاهر بن حارث المحروقي

شهد يوم الثلاثاء الماضي، جنازة مهيبة لرجلٍ حببه الله إلى خلقه، هو الشيخ خلفان بن محمد العيسري؛ وما تلك الجموع الغفيرة التي حضرت الجنازة إلّا دليلاً على ذلك؛ ففي الوقت الذي كان الناس ينتظرون الجثمان في مسجد بلال القريب من المقبرة، إذا بالصلاة يتم تحويلها إلى جامع علي الشيهاني، لأنّ عدد المصلين كان كبيراً جداً، فلا يسعهم مسجد بلال، ومع ذلك فإنّ جامع علي الشيهاني -على اتساعه-، لم يكفِ المصلين، الذين أمّهم سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة؛ ولقد تخلل مسيرة الجنازة إلى المقبرة، السكينة والهدوء، ولم تستغرق عملية الدفن إلا دقائق معدودة، لدرجة أنّنا - نحن المشيعين- لم نحس متى بدأت عملية إهالة التراب على القبر، وفوجئنا بسماع صوت الشيخ عبد الله بن عامر العيسري، وهو يدعو للشيخ خلفان، ويشكر المشيعين.

أمام هيبة الموت، تتأثر النفس البشرية، ولكن سرعان ما تعود إلى انشغالها بأمور الدنيا، وقد سمعتُ الشيخ ناصر المرموري رحمه الله، في إحدى محاضراته في مسجد السيد حمد بن حمود، قبل سنوات يقول "إنّ مثل الموت كمثل قطيع من الغزلان ترعى؛ فإذا أسدٌ قويٌ ينقضُّ على القطيع ويفترس إحدى الغزالات، فتركض الغزلان هروباً، ولكن بعد لحظة تعود الغزلان إلى المرعى، وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأنّ الموت لن يصيبها"، وهكذا هي حالنا، وعندما كنتُ أمشي في جنازة الشيخ خلفان.. تلك الجنازة المهيبة دارت في خلدي عدة أسئلة: ماذا قدّمنا لله..؟ وماذا قدّمنا لدين الله..؟ وما هو زادنا الذي سنقابل به الله..؟ وماذا قدّمنا للبشرية..؟ وهل بإمكاننا أصلاً أن نفرَّ من الموت.. إذ هو ملاقينا مهما فعلنا.. ثم هل كلُّ ابتلاء هو شر..؟! .. لقد قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم "إنّ الابتلاء يكون على قدر الإيمان"، فكلما زاد الإيمان زاد الابتلاء والاختبار، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أشدُّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً "يُبتلى الرجل على قدر دينه". إنّ النفس البشرية أمام ضعفها قد تتساءل ما فائدة الابتلاء والاختبار..؟ والسؤال في حقيقته ليس ذنباً؛ فكلُّ من جرَّب نوعاً من الابتلاء، حتى ولو كان صغيراً؛ فإنّه لا بد أنّه قد لاحظ كيف توجّه إلى الله بكلِّ قلبه وبكلِّ مشاعره، يدعوه دعاء المضطر، وهذا قد لا يحدث مع الرخاء، ثم إنّ الله بعدله ورحمته بذلك الابتلاء يرفع الدرجات، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله سلم "ما يُصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ حتى الشوكة يشاكها، إلّا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة".

إنّ الإنسان بقدر إيمانه ويقينه بالله، يستطيع أن يجعل من الابتلاء، نعمةً أو نقمة؛ ففي الحديث القدسي الشريف يقول الله سبحانه وتعالى:"أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء"، وقد جاء في الأثر أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دخل على أعرابي يعوده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا بأس.. طهور إن شاء الله"، فقال الأعرابي: "بل هي حُمّى تفور أو تثور على شيخ كبير تزيره القبور"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "فنعم إذن"، أي هي هكذا فعلاً، لأنّ هذا هو يقين الرجل الذي رفض أن تكون الحمى طهوراً لذنوبه، وآمن أنّها ستقوده إلى الموت.. وقد كان؛ ويقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، تعليقاً على الحديث "إنّ الأمر يخضع للاعتبار الشخصي، فإنْ شئت جعلتها تطهيراً ورضيت؛ وإن شئت جعلتها هلاكاً وسخطًا".

إنّ الشيخ خلفان العيسري علَّمنا أنّ المرض الذي أصيب به، قد علّمه ثلاثة أشياء، وهي "أنّ علاقتنا بالله سطحية وينقصنا الإخلاص واليقين؛ والثانية أنّ الدنيا لا قيمة لها وسرعان ما سنتركها خلفنا؛ فلا تستحق الضغينة أو الجفاء ومقاطعة الأحبة؛ أما الدرس الثالث فهو أنّ كلَّ يوم يمر علينا هو بمثابة فرصة لفعل الخير والمشاركة الفعالة في المجتمع، وعلى قدر العطاء والإحسان للآخرين تحلو الحياة ونتناسى همومنا ومشكلاتنا"؛.. بل إنّ الشيخ خلفان ذكر للزميلة نايلة بنت ناصر البلوشية في برنامج حديث الروح، حلقة 29 مايو 2014، أنّ فترة المرض وخاصة عندما كان طريح الفراش لا يتحرك، قرّبته كثيراً إلى الله.

إذا كان الشيخ خلفان العيسري يقول إنّ علاقتنا بالله سطحية - وهو المجتهد ونحسن الظن به ولا نزكي على الله أحداً-؛ فماذا نستطيع أن نقول نحن وقد شغلتنا الدنيا، فلم نستفد منها ولم نقدم شيئاً للآخرة..؟! لقد كان الشيخ خلفان يتحدَّث في خطبه ودروسه ومحاضراته عن الآخرة وعن الجنة والنار، ولكنه لم ينس الدنيا قط؛ بل كان يحثُّ الناس، وخاصة الشباب؛ على الاهتمام بالعلم والعمل، وعلى ضرورة الأخذ بأسباب النجاح، باعتبار أنّه إذا كانت الحياة الآخرة حقاً، فإنّ الدنيا أيضاً حق، فلا ينبغي إهمالها وترك الآخرين ينجحون فيها.. فيما يبقى المسلمون مجرد متسولين.

لقد تساءل د.مصطفى محمود مرةً في إحدى المقابلات التلفزيونية، بعد أن ذكر أنّ رواياته مُثّلت سينمائياً، وفازت مسرحياته بجوائز: في لحظة من اللحظات سيطر عليّ تفكيرٌ وهو بماذا سأقابل الله..؟ هل سأقابله بـ "شوية روايات وشوية مسرحيات وشوية كلام"..؟!، ويقول إنّ تلك اللحظات كانت البداية التي انطلق منها لتأسيس جامع مصطفى محمود، وكذلك لتأسيس الجمعيات الخيرية التي حملت اسمه، وكذلك بناء مستشفى مصطفى محمود الذي يقدم العلاج شبه المجاني للفقراء، ومع ذلك فإنّ مصطفى محمود مثله في ذلك مثل الشيخ خلفان العيسري، ومثل كلِّ من أعطى؛ فقد ظلّوا يعتقدون أنّهم مقصرون وأن علاقتهم بالله سطحية، وهي تحميلُ مسؤوليةٍ كبيرة لنا وللنّاس أجمعين، حيث انشغلنا بالدنيا، وتنافسنا فيها على أشياء تافهة، كأنْ يشغلُنا أنّ فلاناً ترقّى ولم نترق نحن، أو أنّ فلاناً حصل ونحن لم نحصل، بل إننا حملنا الضغينة في قلوبنا ضد بعضنا البعض على أشياء تافهة وزائلة، وفي النهاية لم نحقق شيئاً ذا بال دنيوياً وأخروياً؛ وفي أحيان كثيرة نتعامل وكأننا قد ضمنا الفردوس الأعلى.

ونحن نشيع الشيخ خلفان إلى مثواه؛ قال لي فيصل بن محمد الخروصي: إنّ جنازة كهذه عبرةٌ لمن يَعتبر؛ فالرجلُ أخلص لله فأحبه النّاس، فكثيرون من الحكام والمسؤولين لا يجدون مُشيعين بهذه الكثرة؛ وقال لي إنّه ذهب إلى الحج مع الشيخ خلفان ثلاث مرات، فكان خير مرشد وخير ناصح، وفي إحدى المرات عند عودة حملة الحج إلى السلطنة، قال الشيخ خلفان للشباب: "إنكم أديتم الحج، فليس معنى هذا أن تتعقدوا وتعقدوا حياتكم وتعاملوا أهاليكم وزوجاتكم بالقسوة، وكأنّ هذا من الدين في شيء، فالدينُ سمح".

لقد حرصتُ أن أصلي أوّل جمعة بعد غياب الشيخ خلفان العيسري في جامع أبي الحسن البسيوي الذي كان يخطب فيه، وقد أجاد الشيخ خالد العبدلي في خطبته التي تحدث فيها عن معراج الأرواح إلى بارئها، وعن صنفين من النّاس عند الموت؛ الأول الذين تتلقاهم الملائكة طيبين، والثاني الذين تتلقاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، وأنّ الإنسان عند الموت إمّا أن يكون مستريحاً أو مستراحاً منه، وكيف يجب على الإنسان أن يعمل لكي يكون مستريحاً، وذلك بما يُقدمه من أعمال صالحة، وفي معرض حديثه عن الموت، قال إنّ الإنسان يعرف تماماً في تلك اللحظة مصيره؛ وعقب الصلاة تحدث قليلاً عن مناقب الشيخ خلفان رحمه الله، التي جعلت الناس تحبه.

لقد كان الشيخ خلفان، حتى في شدة مرضه متفائلاً، وقد علم أنّ ما أصابه من مرضِ والدته ووفاتها، وهو في شدة مرضه ليس إلّا ابتلاء واختباراً، فعسى أن يكون قد نجح في ذلك الابتلاء والاختبار، وعسى أن يرحمنا الله ولا يدخلنا في اختبارات نسجل فيها سقوطاً مدوياً. رحم الله الشيخ خلفان بن محمد بن خلفان العيسري، وأنزله منازل الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقا.

Zahir679@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك