الاستفادة المثلى من الاتفاقية الاقتصادية الشاملة مع الهند

 

 

ناجي بن جمعة البلوشي

 

تبرز الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية كوثيقة عهدٍ لشراكات استراتيجية عابرة للحدود، ترسم ملامح مستقبل مشترك يقوم على التكامل لا التنافس، وأي اتفاقية اقتصادية رصينة بين بلدين ليست مجرد نصوص قانونية لتنظيم الجمارك؛ بل هي رؤية سياسية برداء تنموي.

وتبدأ هذه الاتفاقيات بكسر الحواجز البيروقراطية وتذليل العقبات الجمركية، لتتحول تدريجيًا إلى "شريان حياة" يتدفق عبره الابتكار، وتنتقل من خلاله رؤوس الاموال والخبرات. هذا التكامل يخلق بيئة من الأمان الاستثماري، حيث يطمئن رأس المال إلى وجود أطر قانونية تحميه، ومسارات واضحة تدعم نموه.

والنجاح في الاتفاقيات الاقتصادية البينية يستند إلى 3 مرتكزات أساسية تضمن ديمومتها، وهي: (1) المعاملة بالمثل والمنفعة المتكافئة؛ حيث لا يطغى طرف على آخر؛ بل يجد كل بلد في سوق الآخر امتدادًا طبيعيًا لمنتجاته ومميزاته التنافسية. (2) تناغم المعايير والتشريعات؛ حيث إن توحيد المقاييس الفنية والقواعد الإجرائية هو ما يحول "الاتفاق الورقي" إلى "واقع ملموس" يسهل حركة التجارة وسلاسل الإمداد. (3) الحماية القانونية والسيادة المشتركة، وذلك من خلال آليات فض النزاعات وحماية الملكية الفكرية، مما يعزز الثقة بين المؤسسات والشركات في كلا البلدين. فإذا ما وصلت الاتفاقية الى ركائزها تلك كان لها الأثر التنموي والارتداد الإيجابي ليطال الفرد قبل المؤسسة؛ وذلك من خلال فتح الأسواق بينهما، وهذا يعني خلق فرص عمل جديدة، وتنويع مصادر الدخل القومي لكلا البلدين؛ فيؤدي إلى استقرار العملة المحلية، واحتكاك الخبرات فترتفع جودة كل منتج وطني لينافس في الأسواق العالمية؛ لذلك إنها دورة تنموية متكاملة تبدأ بتوقيع "قلم" وتنتهي بازدهار "وطن". 

وتبقى الاتفاقيات الاقتصادية هي الرهان الرابح في عصر التكتلات الاقتصادية؛ فهي لا تبني اقتصاديات قوية فحسب؛ بل تُحكِم وثاق العلاقات السياسية بينهما وتجعل من السلام مصلحة حيوية مشتركة ومن توحيد المواقف هدفا إستراتيجيا أسمى. وهذا هو مسار الهندسة الجديدة للعلاقات الدولية؛ حيث يكون الاقتصاد هو المحرك لأجل التنمية، ووقوده هو التعاون البناء، ليوصلنا الى هدف الرفاه المُستدام للشعوب. وحيث إننا في سلطنة عُمان وقَّعنا مؤخرًا مع جمهورية الهند الاتفاقية الاقتصادية الشاملة، فإننا بذلك دخلنا الى طريق جديد من العلاقات مع أقوى رابع اقتصاد في العالم، هذا الاقتصاد الأقرب إلينا جغرافيا والذي يتعدى ناتجه الإجمالي إجمالي الناتج المحلي لكل دول الوطن العربي مجتمعة، إننا أمام سوق تضم 1.4 مليار نسمة. لكن تبقى الاستفادة من هذا السوق بهدف الرغبة في التوسع صعبة؛ إذ يتطلب الأمر استراتيجية اختراق عميقة تفهم خصوصية هذا السوق الذي يمثل منظومة اقتصادية متكاملة ومستقلة بذاتها قبل أن نوقع معه الاتفاقية.

والسؤال المطروح الآن: كيف يمكن ذلك؟

هنا سنضع بعض الحلول لمساعدة القطاع الخاص العُماني وصاحب القرار الحكومي في ذلك الاختراق.

أولًا: التصدير والبيع في السوق الهندي

الاندماج في سلاسل الإمداد والقيمة (Value Chain)؛ فالهند ليست مجرد مستهلك؛ بل هي مصنع ضخم من مصانع العالم وهنا يمكن للشركات المحلية الاستفادة من ذلك المصنع بالاندماج في مكوناته من خلال توطين المكونات وذلك بتوريد المواد الخام أو السلع الوسيطة التي تحتاجها الصناعات التحويلية الهندية. وتوطين سلاسل الإمداد بدلًا من محاولة تصدير منتج نهائي للهند ومنافسة آلاف المصانع هناك، البحث عن "نقطة اختناق" في سلاسل إمدادهم تخصص لتصنيع جزء دقيق جدًا أو مادة خام معالجة لا تكتمل الصناعة الهندية إلا بها. واستغلال منظومة التجارة الإلكترونية العابرة للحدود أو من خلال استغلال "اقتصاد المؤثرين"؛ فالهند تمتلك منظومة بيع رقمي ضخمة على مستواها المحلي ومن خلالها يمكن للشركات المحلية الوصول المباشر للمستهلك الهندي واستهداف "الطبقة المتوسطة" منه في بيع المنتجات النوعية والفاخرة والمنتجات الصحية في قطاع الأغذية العضوية مع التركيز على بيع الهوية لا السلعة.

ثانيًا: الاستيراد والاستفادة من المنتج الهندي

  1. جذب الاستثمارات المباشرة (FDI) ونقل التكنولوجيا فالاستفادة لا تقتصر على التصدير للهند، بل في جلب "الهند" إلى الداخل باستثمارات ضخمة وكبيرة تحتاج لها البلاد في التنويع الاقتصادي كالاستثمار في المجال الصحي مثلًا (مصانع الأدوية- المستشفيات- تصنيع الأجهزة الطبية).
  2. المشاريع المشتركة (Joint Ventures): الشراكة مع شركات هندية لإنشاء مصانع محلية؛ مما يوفر للشركة المحلية وصولًا إلى التكنولوجيا الهندية وخبرات الإدارة اللوجستية المتقدمة.
  3. عقود التصنيع المشترك: الاستفادة من الخبرة والتكنولوجيا الهندية لرفع جودة المنتج المحلي ثم إعادة تصديره للأسواق الإقليمية بمواصفات عالمية منافسة.

ثالثًا: القرار الحكومي

  1. خلق منصة للتبادل الصناعي التجاري العالمي من خلال فتح الأبواب لتفعيل التصنيع النهائي داخل السلطنة للمنتجات الأمريكية والهندية ليكون المنتج النهائي عُمانيًا يسمح له بالدخول الى الدولتين باستغلال الاتفاقيات المبرمة.
  2. خلق مناطق لوجستية عملياتية لإعادة التصدير بهوامش ربح شبه معدومة خلاف ما هو موجود اليوم وذلك بوضع استراتيجية الكم على الكيف لإعادة التصدير من الهند الى الخليج وأفريقيا وأوروبا وأمريكا والعكس.
  3. خلق مدينة تصنيع غذائي وذلك من خلال تخصيص أرض للمصانع العُمانية والهندية والأمريكية لاستقبال المواد الغذائية الخام من الهند وأمريكا وأفريقيا وتصنيعها لتكون منتجاً نهائيًا قابلاً للتصدير.
  4. الاستفادة القصوى في دمج أي اتفاقيات مستقبلية للدول التي تم الاتفاق معها بالاتفاقيات التجارية الجديدة للبلدين والتي قد تكون محظورة أو بها شيئا من الشروط والعقبات لأحدهما، وبذلك نعمل كـ"رئة" يتنفس منها الاقتصاد المتفق معه بعمولة التصنيع والعبور.

الأكثر قراءة

z