الاقتصاد الهندي في سطور

 

 

ناجي بن جمعة البلوشي

يُمثِّل الاقتصاد الهندي اليوم نموذجًا استثنائيًا في التحول الاقتصادي العالمي، ليس فقط باعتباره أحد أسرع الاقتصادات نموًا؛ بل بوصفه قوة متكاملة قادرة على إحداث تأثير عميق في بنية الاقتصاد الدولي.

وفي خضم تباطؤ النمو العالمي، تبرز الهند بوصفها المحرك الأبرز للنمو في العالم؛ حيث تؤكد المؤسسات الدولية هذا الأداء الاستثنائي: فقد رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي الهندي إلى نحو 6.6% في العام المالي 2025- 2026؛ مما يُعزز مكانة الهند كأسرع الاقتصادات الكبرى نموًا في العالم رغم التحديات الخارجية، كونها مدعومة بعوامل هيكلية قوية تتمثل في قاعدة سكانية ضخمة، وسوق داخلي واسع، وقدرة متزايدة على المنافسة في مجالات التكنولوجيا والتصنيع والخدمات. وفي السنوات الأخيرة، حافظت الهند على معدلات نمو مرتفعة مقارنة مع الاقتصادات الكبرى. وقد نما الناتج المحلي الإجمالي الهندي بنسبة 8.2% في الربع الثالث من عام 2025، متجاوزًا توقعات المحللين ومبرهنًا على مرونة الاقتصاد في مواجهة التحديات العالمية مثل السياسات التجارية الحمائية.

ويستند هذا الانطلاق الفعلي للاقتصاد الهندي على تفاعل عوامل ديموغرافية استثنائية، وإصلاحات اقتصادية عميقة، وقدرة متنامية على توظيف المعرفة والابتكار في خدمة التنمية، ما يجعل الهند مرشحة بجدية لتكون قطبًا عالميًا جديدًا في القرن الحادي والعشرين؛ حيث يُقدَّر الناتج المحلي الإجمالي الهندي حاليًا بحوالي 4.3 تريليون دولار، وقد تضاعف أكثر من مرتين خلال عقد واحد فقط، بفضل تنوع الهيكل القطاعي للاقتصاد الهندي؛ حيث يتميز ببنية قطاعية متوازنة نسبيًا، تجمع بين الزراعة والصناعة والخدمات، مع بروز قطاع الخدمات بوصفه المحرك الرئيسي للنمو.

الهند تحولت إلى مركز عالمي لتكنولوجيا المعلومات والبرمجيات والخدمات الرقمية، مستفيدة من وفرة الكفاءات البشرية ذات التأهيل العالي والتكلفة التنافسية. كما شهد القطاع الصناعي توسعًا ملحوظًا في مجالات استراتيجية مثل الصناعات الدوائية، وتكنولوجيا الفضاء، وصناعة السيارات، والطاقة المتجددة، مدعومًا بمبادرات حكومية طموحة أبرزها "اصنع في الهند"، التي تهدف إلى تحويل البلاد إلى منصة صناعية عالمية.

ويحتل الابتكار والتقدم التكنولوجي موقعًا محوريًا في مسار الصعود الهندي؛ حيث استثمرت الدولة بشكل مكثف في البنية التحتية الرقمية، والتعليم التقني، والبحث العلمي، أدى ذلك إلى نشوء منظومة متكاملة للشركات الناشئة تُعد من بين الأكبر عالميًا، وأسهم في تعزيز التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة. كما مكّن التحول الرقمي الواسع النطاق من تحسين كفاءة الإدارة الاقتصادية، وتوسيع الشمول المالي، وربط ملايين المواطنين بالاقتصاد الرسمي.

وبهذه الخطوات شكل القطاع الخدمي نحو 55% من الناتج المحلي الإجمالي؛ حيث يعمل به نحو 182 مليون شخص تقريبًا، وهو محرك رئيسي للوظائف والدخل، كما إن قطاع تكنولوجيا المعلومات والخدمات المرتبطة به يسهم بشكل كبير في الصادرات ويُقدَّر إيراداته بما يقارب 200 مليار دولار سنويًا، مع نمو مطرد في الوظائف، ناهيك عن قطاعي الزراعة والصناعة اللذين يعمل بهما حوالي 288 مليون و150 مليون إنسان على التوالي. ونظرًا لأن القوة الاقتصادية للهند تبدأ من كتلتها السكانية الهائلة التي تجاوزت 1.4 مليار نسمة، وهي كتلة لا تمثل عبئًا ديموغرافيًا بقدر ما تشكل رصيدًا استراتيجيًا، نظرًا لكون نسبة كبيرة منها في سن العمل والإنتاج. وقد أسهم هذا الواقع في خلق سوق داخلية واسعة ذات قدرة استهلاكية مرتفعة، وفرت قاعدة صلبة للنمو المستدام وجذب الاستثمارات الأجنبية. وإلى جانب ذلك، أدت الإصلاحات الاقتصادية التي بدأت منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى تحرير التجارة، وتشجيع المنافسة، وتعزيز دور القطاع الخاص، وهو ما أسهم في دمج الاقتصاد الهندي تدريجيًا في الاقتصاد العالمي.

وعلى الصعيد الدولي، يتعاظم الدور الاقتصادي للهند بوصفه امتدادًا لقوتها الجيوسياسية المتنامية؛ فمشاركتها الفاعلة في مجموعة العشرين، وتنامي شراكاتها الاستراتيجية مع القوى الاقتصادية الكبرى، يعكسان سعيها الواضح إلى لعب دور مركزي في إدارة الاقتصاد العالمي. كما استفادت الهند من التحولات الجارية في سلاسل التوريد الدولية، لتقديم نفسها كبديل موثوق في مجالات التصنيع والاستثمار، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية العالمية.

ومع ذلك، لا يخلو هذا المسار من تحديات بنيوية تتعلق بالفقر، وعدم المساواة الاجتماعية، وضغوط البنية التحتية، والحاجة إلى تطوير قطاعات التعليم والصحة. غير أنَّ قدرة الهند على مواصلة الإصلاحات، والاستثمار في رأس المال البشري، والتوجه نحو نموذج تنموي أكثر استدامة، يمنحها هامشًا واسعًا لتجاوز هذه التحديات.

الأكثر قراءة

z