ناجي بن جمعة البلوشي
يمضي العام كما تمضي الأيام في ظاهرها، إلّا أن بعض الأعوام لا ترحل كما غيرها، تبقى عالقة في الذاكرة محفورة في القلب، ثقيلة كأنها تأبى المغادرة لما فيها من ذكريات.
ونحن نودّع عام 2025 لم يكن عابرًا في حياتنا؛ بل كان امتحانًا قاسيًا علينا، ترك في داخلنا شروخًا لا تُرى، لكنها تؤلم كلما تذكرنا. عام فقدنا فيه أحبابًا أعزاء علينا، رحلوا بصمتٍ موجع، وكأنهم أخذوا معهم جزءًا من أرواحنا. فكم هو قاسٍ أن تعتاد وجود إنسان معك، ثم يُصبح فجأة ذكرى، صورة، أو اسمًا في دعاءٍ يَهمس به لسانُنا في الليل.
هذا العام علمنا كيف أنَّ القلب بإمكانه التعايش مع الوجع. وفي أيامه الطويلة ذقنا مرارة الصبر، لكننا تعلمنا أن القوة ليست في عدم الانكسار، بل في القدرة على الوقوف. بكينا كثيرًا، بصمتٍ أحيانًا، وبحرقةٍ أحيانًا أخرى، لكننا رغم ذلك وبينما كان الحزن يسكن أعماقنا ابتسمنا مجاملة للحياة. أدركنا أنَّ الوجع لا يحتاج إلى كلمات للتعبير عنه، وأن بعض الأحزان أكبر من أن تُروى لتسمع. لم يكن هذا العام شرًّا خالصًا، فقد كشف لنا حقيقة الدنيا، وعلّمنا أن التعلّق الزائد مُؤلم، وأن كل من نحبهم أمانة قد نفقدها في أي لحظة. علّمنا أن نقول لمن نحب: "أحبك" المجردة دون تأجيل، وأن نُمسك لحظة الفرح جيدًا قبل أن تفلت من بين أيدينا. لقد جعلنا أكثر وعيًا بقيمة الوقت، خاصة عندما يكون الوقت ذاته قاسيا، وأيُّ قسوةٍ كتلك التي تختار يوم العيد موعدًا للفراق؟ يومٌ خُلِق للفرح، للضحكات، للثياب الجديدة، وللقلوب الخفيفة…فيأتي الموت ويكسر الإيقاع، ويُسكت الضجيج، لتتحوّل التهاني إلى دموع، وتغدو الزينة شاهدًا صامتًا على وجعٍ لا يُحتمل.
يمضي العيد بعده ناقصًا، أو وقت موت الفجأة فهو أقسى أنواع الفقد؛ لأنَّه لا يترك مجالًا للاستعداد، ولا يسمح للكلمات الأخيرة أن تُقال؛ فهو يأتي بلا استئذان، فيترك الأسئلة معلّقة، والقلوب مكسورة، والحنين أثقل من أن يُحتمل بمجرد الغياب الذي لا نفهمه، ولا نتصالح معه، فكم هو موجع أن يسقط الخبر كصاعقة، تُعلِّمُنا أن الفرح هشّ، وأن الحياة قد تجمع الضدّين في لحظة واحدة دون إنذار؛ فالقلوب ليست كما نظنّها دائمًا قوية أو صلبة، بل هي أوعية رقيقة، تمتلئ بالحب سريعًا من مجرد همسة مواساة، وتنزف بصمت حين تفقد أقل التقدير والإحساس.
ها نحن اليوم نصل إلى نهاية عام 2025، نحمل أوجاعنا معنا، ونُسلّم الزمن عامًا لم يكن سهلًا. نودّع إياه بقلوب مثقلة، وعيون أنهكها البكاء، وأرواح تبحث عن الطمأنينة سائلين الله- عز وجل- ونحن على أعتاب عام جديد، أن يرحم من فقدناهم، وأن يجعل قبورهم نورًا وسلامًا، وأن يجبر قلوبنا جبرًا يليق بعظم الألم الذي حملناه. نسأله- تعالى- عامًا أرحم، وأخف وطأة، عامًا يحمل في أيامه العوض، وفي لياليه السكينة، وفي نهايته ابتسامة صادقة لا يسبقها وجع. مُدركين أننا في عام جديد لسنا فيه كما كنَّا، فقد غيّرتنا الخسارات، وعمّقتنا التجارب، وجعلتنا أكثر فهمًا للحياة.
وداعًا أيها العام الثقيل.. عام عرفنا فيه معنى الأحباب حقًّا؛ أولئك الذين لا يُعوَّضون، الذين إذا غابوا اختلّ ميزان الحياة عاطفياً على الأقل معنا. وداعًا بما فيك من حزن وحنين، سلامٌ على ما مضى، لنتمسك بأملٌ خافت، لكنه صادق، فيما هو آتٍ. فنحن الآن سنستقبل عامًا جديدًا ننظر فيه إلى المستقبل بقلوب مجروحة، لكنها ما زالت قادرة على الحب؛ بل لم تعد كما كانت، قلوبٍ عبرت الفقد، وتشرّبت الوجع، وصارت أعمق إحساسًا. نحمل أحبابنا الراحلين عنا إلى المستقبل، لا كحزنٍ ثقيل؛ بل كجذورٍ خفية تمنحنا الثبات. ترافقا أسماؤهم في الدعاء، وملامحهم في التفاصيل الصغيرة، مع كل لحظة صمت وتفكر في علم الجينات، أو نظرة بعيدة لما هو خير، أو شوقٍ يمرّ فجأة دون سبب.
الفقد لن يختفي، لكنه سيتحوّل إلى حكمة، وإلى إنسانٍ داخلي أعمق من ذي قبل، تعلّم أن الحياة لا تُدار باليقين، بل بالقبول. قبِلَ وأستيقن أن بعض الخسارات لا تُجبر، وأن بعض الأسئلة مهما بدت سخيفة ستبقى بلا إجابة، وأن القلب لا يعود كما كان، بل كما يجب أن يكون. هنا أنا لستُ مكسورًا مما حصل لي، أنا فقط أُعيد ترتيب نفسي بعد أن بعثرتني بعض مواقف الأيام؛ لأدرك أن الحب ليس وعدًا بالبقاء؛ بل شجاعة مني في العيش، فنحن نحب رغم علمنا بالنهاية، ونبتسم ونحن نعرف أن الفرح عابر، وهذا ليس ضعفًا؛ بل أرقى أشكال القوة.. القوة التي علمتني أن أفتح قلبي دون أن أُفرغه، وأن أُعطي دون أن أفقد نفسي.
