حين يصبح الزمن سؤالًا والروح جوابًا

 

 

 

زكريا الحسني

أوشك هذا العام على بلوغ مشارف الوداع، ومع كل وداع تبرز الأسئلة الثقيلة إلى أبواب القلب قبل العقل.. ماذا فعلنا بأنفسنا؟

وماذا صنعنا بأعمارنا؟

وهل كنَّا أوفياء للرسالة التي أودعت فينا منذ أن خُلقنا؟

إن نهاية العام ليست مجرد انتقال زمني، بل محطة وعي ومرآة صادقة تجبرنا على النظر إلى ذواتنا بلا أقنعة.

إن القرآن الكريم يدعونا إلى هذه الوقفة التأملية بوضوح لا لبس فيه حين يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ"؛ فالنظر إلى الغد لا يكون إلا بمراجعة الأمس ومحاسبة اليوم والسؤال هنا ليس.. ماذا فعلنا للآخرين فحسب؟

بل ماذا فعلنا لأنفسنا؟ هل نمّينا عقولنا؟ هل زكينا قلوبنا؟ هل اقتربنا خطوة من حقيقتنا الإنسانية؟

كثيرون يقيسون النجاح بالمناصب أو الأموال أو الشهرة غير أن القرآن يُعيد تعريف النجاح حين يقول: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"؛ فالنجاح الحقيقي هو تزكية النفس والارتقاء بالروح والتحرر من أسر الغفلة والأنانية وربما مرّ عام كامل ونحن ننجز الكثير مما له علاقة بما هو خارج عن كياننا الداخلي، لكننا نتراجع عن تهذيب الداخل وهنا تكمن الخسارة الصامتة.

ولأن الإنسان كائن متعلم بطبعه فإن السؤال الجوهري في نهاية كل عام هو.. ماذا تعلمنا؟

الحياة كما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنما الدنيا دار ممر لا دار مقر والناس فيها رجلان.. رجل باع نفسه فأوبقها ورجل ابتاع نفسه فأعتقها".

فهل كنَّا ممن أعتقوا أنفسهم بالوعي والعمل والمعرفة أم ممن أوبقوها باللهو والتسويف؟

إن التخطيط للعام الجديد لا ينبغي أن يكون حصرًا في جداول العمل والأهداف المادية بل يجب أن يبدأ بخطة للروح واستراتيجية للقيم ورؤية للمعنى وقد لخص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الميزان بدقة حين قال: "الكَيِّسُ من دانَ نفسَه وعمل لما بعد الموت والعاجزُ من أتبع نفسَه هواها وتمنّى على الله الأماني"؛ فالعاقل هو من يحاسب نفسه ويجعل من كل عام سلما للارتقاء لا دائرة للتكرار".

ومن أعظم ما يعيد للإنسان بوصلته أن يدرك أنه ليس كائنًا عبثيًا؛ بل رسالة سماوية تمشي على الأرض يقول الله تعالى "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا" فمتى ما فهم الإنسان غاية وجوده تغيّر سلوكه وتحوّلت أفعاله وأصبح أكثر وعيًا بكل تفصيل في حياته عندها فقط تتوهّج الروح ويشرق الداخل ويصبح الزمن أداة بناء لا وعاء استهلاك.

وقد عبّر غاندي عن هذا المعنى حين قال: "كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم"؛ فالعالم لا يتغير بالخطب وحدها؛ بل بالإنسان الذي قرر أن يبدأ بنفسه. وكذلك قال نيتشه: "من يملك سببًا ليعيش من أجله يستطيع تحمل أي كيف"، فالغاية تمنح الصبر والمعنى يولد القوة.

 

وفي نهاية هذا العام 2025، نحن مدعوون إلى وعي أعمق لا إلى أمنيات عابرة، مدعوون إلى مصالحة صادقة مع ذواتنا وإلى قرار شجاع بأن يكون العام القادم أكثر صدقًا أكثر نورًا وأكثر قربًا من حقيقتنا فإذا وعينا رسالتنا وأخلصنا نيتنا وسرنا على بصيرة أشرقت الروح واستقام الطريق وصار لكل يوم نعيشه وزن في ميزان الخلود.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z