الصين نحو نصف عقدٍ جديد من التحديث

 

 

تشو شيوان

في ختام الجلسة الكاملة الرابعة للجنة المركزية الـ20 للحزب الشيوعي الصيني، نجد أنفسنا أمام محطة تاريخية تحدد ملامح المرحلة المقبلة؛ حيث تبرز الخطة الخمسية القادمة كخارطة طريق تستشرف آفاق التنمية وتوجه دفة البلاد نحو آفاق جديدة، وككاتب وصحفي صيني أرى أن هذه الخطط ليست مجرد أرقام وإحصائيات؛ بل تجسيد حي لرؤية الصين الشاملة نحو بناء مستقبل أكثر ازدهارًا.

ومن وجهة نظري تمثل الخطة الخمسية المقبلة نقلة نوعية في مسيرة النهضة الصينية، حيث تتجه بلادنا نحو تعزيز جودة التنمية بدلًا من الاكتفاء بتحقيق معدلات النمو، خصوصًا وأن التركيز سينصب على الابتكار التكنولوجي والتحول الرقمي، مع تعزيز مبادئ الاقتصاد الأخضر الذي يحقق التوازن بين متطلبات التنمية وضرورات الحفاظ على البيئة، ويمكننا القول بأن هذه الرؤية تعكس حكمة القيادة الصينية في استشراف المستقبل.

لقد بداَ واضحًا أن الصين لا تنوي مجرد الانتقال من مرحلة إلى أخرى بصورة عَرَضية؛ بل تستعد لصياغة تحوّل نوعي في اقتصادها ومجتمعها: تحوّل يُركّز على الاستقلال التكنولوجي، وتعزيز الدور الصناعي الحديثة، وتوسيع السوق الداخلي، وفي الوقت ذاته فتح أبوابها عريضًا أمام العالم.

خلال السنوات الماضية برزت الصين كمثال على قدرة دولة نامية على تحويل الضغوط والتقلبات، والصين أثبتت بأنها قادرة على تحويل الصدمات الخارجية إلى حافز للتحديث والتنمية، وقد ترسّخت هذه النظرة لدى الخارج، لأنها لم تكتفِ بتحقيق نمو؛ بل ركّزت على «تنمية عالية الجودة» وشاركت هذه التنمية مع دول الجوار والعديد من دول العالم، وفي رأيي هذا التوجّه يؤشر إلى نضجٍ سياسي واقتصادي لدى القادة الصينيين، حيث يصبح النمو ليس هدفًا بحد ذاته؛ بل وسيلة لبناء قدرة وطنية مستدامة وشاملة.

ما يُثير الاهتمام هو أن الصين تختار في هذه المرحلة «النموذج» الذي تريده: صناعة متقدمة، وتقنيات محلية، وسوق داخلي قوي، ومشاركة دولية مسؤولة، فالاتجاه نحو «بناء منظومة صناعية حديثة» يعكس كيف أن الصين ترى أن اللحظة الراهنة تتطلب أن تكون قوة صناعية ذكية لا مجرد قوة تصنيعية، وفي الوقت ذاته، فإن تصريح وزير التجارة بأن الصين «ستفتح أبوابها بشكل أوسع بين 2026 و2030» يوضح أن الانفتاح الدولي لا يزال أحد محاورها الرئيسية، وأيضًا تمثل مبادرة "الحزام والطريق" إحدى الركائز الأساسية في الخطة الخمسية المقبلة، حيث ستواصل الصين دفع التعاون الدولي وبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، وهذا النهج يعكس التزام الصين بمسؤولياتها الدولية كدولة كبرى تساهم في تحقيق السلام والتنمية العالمية.

وبينما تُمضي الصين نحو هذه الرؤية، يبرز لدي عندي نقطتان حاسمتان؛ الأولى: هي أن السوق الداخلي لم يعد خيارًا ثانويًا؛ بل أصبح محركًا أساسيًا للنمو الاقتصادي، فالاعتماد على الطلب الخارجي فقط صار محفوفًا بالمخاطر في ظل بيئة اقتصادية عالمية مضطربة، وفي هذا أجد الصين توازن بين الاثنين لما فيه من الحفاظ على مكاسبها التنموية الاقتصادية. أما الثانية فهي أن الابتكار لم يعد رفاهية؛ بل ضرورة وطنية؛ فالتقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، المعلومات الكمومية، وصناعات الطاقة الخضراء، كلها متطلبات لبناء الصين الحديثة القادرة على التفوق في هذه المجالات وتقديم تقنيات عالية المستوى تنافس بها أسواق العالم.

من وجهة نظري فإن النجاح في الخطة الخمسية الخامسة عشرة لن يُقاس فقط بأرقام الناتج المحلي الإجمالي، بل بمدى قدرة الدولة على تحويل النمو إلى رفاه ملموس، وإعادة توزيع الفرص، وتمكين الاقتصاد من الصمود أمام الصدمات، وإنني لأؤمن أن هذه الخطة ليست مجرد فترة إعدادية لمئوية جديدة؛ بل إنها منعطفٌ يُحدّد كيف سيُنظر إلى الصين في عقدها المقبل: هل ستكون دولة صناعية تعتمد على ما سبق، أم دولة مبتكرة تُعيد صياغة الاقتصاد العالمي؟ وكل المؤشرات تشير إلى أن الصين قد اختارت الخيار الثاني، لكنها بحاجة إلى ترجمة الرؤية إلى واقع ملموس من خلال سياسات واضحة وتنفيذ عميق، وهذا ما سيجده العالم من الصين خلال الفترة القادمة.

في الختام يمكننا القول إن الصين على أبواب مرحلةٍ تاريخية: مرحلة لا تُركّز على من أين جاءت وما الذي حققته خلال السنوات الماضية؛ بل تركز على إلى أين تتّجه، ومستقبلها سيكون امتدادًا ليس فقط لتحديثها الوطني؛ بل لإسهامها في بناء نظام عالمي أكثر عدالة واستدامة، وأنا أدعوك عزيزي القارئ، لأن تتابع هذه الرحلة عن كثب؛ لأن ما ستفعله الصين خلال الخمس سنوات المقبلة لن يمسها وحدها؛ بل سيؤثّر في الاتجاهات العالمية التي سيعيشها الجيل الحالي والقادم، والخطة الخمسية المقبلة ليست مجرد وثيقة سياسات؛ بل هي بيان ثقة بإرادة الشعب الصيني وقدرته على تجاوز التحديات، وتمثل في تصوري استمرارًا لمسيرة النهضة التي بدأت قبل عقود، وتؤكد عزم الصين على المضي قدمًا في طريق التنمية الشاملة التي تخدم مصالح شعبها وتساهم في رفاهية المجتمع الدولي بأكمله.

الأكثر قراءة