تشو شيوان **
في خطوة أراها مفصلية في مسار الإصلاح والانفتاح الصيني، أطلقت الصين العمليات الجُمركية الخاصة على مستوى جزيرة هاينان والتي تُعد أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم من حيث المساحة، مما يسمح بدخول السلع الأجنبية بحرية أكبر وتوسيع نطاق الإعفاءات الجمركية الكاملة وتطبيق المزيد من الإجراءات الملائمة للأعمال التجارية لتدخل هذه المنطقة مرحلة جديدة من التطور الاقتصادي والانفتاح المؤسسي، وبرأيي لا يُمكن النظر إلى هذه الخطوة بوصفها إجراءً جمركيًا تقنيًا فحسب؛ بل باعتبارها رسالة اقتصادية واضحة تُؤكد أن الصين رغم تصاعد النزعات الحمائية عالميًا ماضية بثبات في توسيع انفتاحها على العالم، وبناء اقتصاد أكثر اندماجًا في النظام التجاري الدولي.
وفي هذا الإطار يُمكن للشركات الأجنبية الاستفادة من بيئة أعمال أكثر توافقًا مع المعايير الدولية، ومستوى أدنى من الضرائب وتكاليف الإنتاج، ونطاق وصول أوسع إلى قطاعات الخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم، فضلًا عن استخدام هاينان كمنصة للوصول إلى سوق البر الرئيسي الصيني الضخم، وأجد أنَّ أهمية هذه الخطوة تكمن في توقيتها بقدر ما تكمن في مضمونها؛ فهي تأتي مع اقتراب نهاية الخطة الخمسية الرابعة عشرة، وفي ظل تحولات عميقة يشهدها الاقتصاد العالمي؛ حيث تتزايد القيود التجارية وتتعرض سلاسل الإمداد لضغوط غير مسبوقة. وفي هذا السياق، يمثل تحويل جزيرة هاينان بالكامل إلى منطقة إشراف جمركي خاصة نموذجًا متقدمًا لما تسميه الصين "الانفتاح عالي المستوى"؛ أي الانفتاح القائم على القواعد والمؤسسات والمعايير الدولية، وليس فقط على تخفيض الرسوم أو توسيع الاستيراد.
من وجهة نظري، فإن اعتماد مبدأ "الوصول الأكثر حرية عند الخط الأول" و"الوصول المنظم عند الخط الثاني" يعكس مقاربة صينية ذكية تجمع بين الانفتاح وحماية الاستقرار الاقتصادي. فمن جهة، يُسمح بدخول السلع الأجنبية بحرية أكبر إلى هاينان مع توسيع نطاق الإعفاءات الجمركية بشكل غير مسبوق، ومن جهة أخرى، يُحافظ على نظام رقابي متوازن عند انتقال السلع إلى البر الرئيسي الصيني؛ بما يضمن استقرار السوق الوطنية ويمنع الاختلالات.
الأرقام وحدها كفيلة بتوضيح حجم التحول، فارتفاع نسبة السلع المعفاة من الرسوم الجمركية من 21 بالمائة إلى 74 بالمائة، وتوسيع قائمة الأصناف إلى أكثر من 6600 صنف، يفتح آفاقًا واسعة أمام الشركات العالمية. أرى أن هذا التطور يجعل من هاينان بوابة حقيقية للشركات الأجنبية الراغبة في دخول السوق الصينية، لا سيما في قطاعات الخدمات، والرعاية الصحية، والتعليم، والتجارة الرقمية، وهي قطاعات تشكل محركات النمو المستقبلية للاقتصاد العالمي.
ولا يقتصر أثر هذه السياسات على الصين وحدها؛ بل يمتد إلى العالم بأسره. وكلما فتحت الصين سوقها بشكل أوسع وأكثر شفافية، ازدادت فرص الدول والشركات للاستفادة من الطلب الصيني الضخم. ميناء هاينان للتجارة الحرة يوفر منصة عملية للشركات العالمية لاختبار منتجاتها وخدماتها، وخفض تكاليف الدخول إلى السوق، وبناء شراكات طويلة الأمد مع السوق الصينية. وهذا بدوره يسهم في تعزيز التجارة الدولية، وتحقيق قدر أكبر من التوازن في سلاسل التوريد العالمية.
أجدُ أيضًا أن هذه الخطوة تحمل بُعدًا رمزيًا مهمًا، خاصة مع تزامنها مع ذكرى اجتماع عام 1978 الذي أطلق مسيرة الإصلاح والانفتاح؛ فهي تؤكد أن روح ذلك القرار التاريخي لا تزال حية، وأن الصين لا ترى في الانفتاح خيارًا ظرفيًا؛ بل مسارًا استراتيجيًا طويل الأمد، كما إن تطوير هاينان يبعث برسالة طمأنة للمستثمرين الأجانب مفادها أن الصين ملتزمة بتوفير بيئة أعمال مستقرة، متوقعة، ومتوافقة مع المعايير الدولية.
في الختام.. إن تجربة هاينان لن تبقى حالة استثنائية؛ بل قد تشكل نموذجًا يُحتذى به في مشاريع صينية مستقبلية مشابهة؛ سواء داخل الصين أو في إطار التعاون الاقتصادي مع الدول الأخرى. ومستقبل هذه المشاريع- برأيي- سيكون قائمًا على تعميق الانفتاح المؤسسي، وربط السوق الصينية بالأسواق العالمية بشكل أكثر سلاسة، وتحويل مناطق مثل هاينان إلى مختبرات للإصلاح والابتكار، وعلى مدى العقود الماضية، أنشأت الصين 22 منطقة تجريبية للتجارة الحرة، وألغت القيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي في قطاع التصنيع، ووسعت نطاق الوصول إلى الأسواق في قطاعات تشمل الاتصالات والرعاية الصحية والتعليم، ومع الاستمرار في هذا النهج فإن السنوات القادمة قد تشهد بروز مناطق تجارة حرة أكثر تطورًا، تؤدي دورًا محوريًا في دفع الاقتصاد الصيني، وفي الوقت نفسه في دعم نمو الاقتصاد العالمي بشكل أكثر توازنًا واستدامة.
** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية- العربية
