تشو شيوان **
انعقد مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي السنوي في العاصمة الصينية بكين؛ باعتباره أحد أهم المحطات السياسية والاقتصادية في أجندة صنع القرار الصيني؛ حيث يجتمع فيه قادة الحزب والدولة لرسم ملامح السياسات الاقتصادية للمرحلة المقبلة، وتقييم الأداء الاقتصادي للعام المنصرم، ووضع الأسس العامة للتنمية في السنوات التالية.
وتكمن أهمية هذا المؤتمر في كونه لا يقتصر على تشخيص الواقع الاقتصادي؛ بل يشكل إطارًا استراتيجيًا يُوجِّه عمل الحكومة والأسواق والمؤسسات على حد سواء، خصوصًا وأنه يأتي في مرحلة مفصلية تتزامن مع ختام الخطة الخمسية الرابعة عشرة والاستعداد لانطلاق الخطة الخمسية الخامسة عشرة، ما يجعله مؤتمرًا حاسمًا في تحديد اتجاهات النمو، وتعزيز الاستقرار، وبناء الثقة الداخلية والخارجية بمسار الاقتصاد الصيني في ظل بيئة دولية معقدة ومتغيرة.
برأيي، لا يمكن قراءة انعقاد مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي الأخير بوصفه اجتماعًا دوريًا تقنيًا لتحديد مؤشرات النمو فحسب؛ بل أراه لحظة مفصلية تُجسِّد طريقة تفكير الصين في مستقبلها الاقتصادي في عالم يتغير بسرعة ويزداد تعقيدًا، وككاتب صيني أجدُ أن ما يلفت الانتباه في هذا المؤتمر ليس فقط حجم الملفات المطروحة؛ بل الروح العامة التي حكمت النقاشات، وهي روح الثقة الهادئة الممزوجة بواقعية واضحة، فقد اعترف القادة صراحة بأن البيئة الخارجية باتت أكثر تعقيدًا وأن التحديات الداخلية لم تختفِ، لكنهم في الوقت نفسه شددوا على أن الأسس التي يقوم عليها النمو طويل الأجل في الصين لا تزال راسخة. وهذه الرسالة في حد ذاتها بالغة الأهمية للأسواق وللمجتمع وللعالم، فهذا ما يبرهن أن القيادة الصينية قيادة مرنة وقادرة على تجاوز الصعوبات وفي الوقت نفسه هي تضع نصب عينها بأن الصين اليوم لها تأثير قوي عالميًا ومن الضروري التعاطي بحكمة مع المعطيات والتحديات الخارجية بكافة أشكالها وأنواعها.
وأرى أنَّ التركيز المُتكرِّر على مفهوم التنمية عالية الجودة يعكس تحولًا عميقًا في العقل الاقتصادي الصيني؛ فالصين لم تعد تسعى إلى أرقام نمو مرتفعة بأي ثمن؛ بل إلى نمو متوازن، أكثر كفاءة، وأكثر قدرة على الصمود، وهو ما يتجلى في الجمع بين الاستثمار في الأصول المادية والاستثمار في رأس المال البشري، وبين توسيع الطلب المحلي وتعزيز القدرة على مواجهة الصدمات الخارجية، وهذا التوازن- برأيي- هو جوهر المرحلة المقبلة.
ولا شك أنَّ إعطاء الطلب المحلي أولوية قصوى ليس خيارًا تكتيكيًا مؤقتًا؛ بل إعادة تموضع استراتيجية للاقتصاد الصيني؛ حيث إن تعزيز الاستهلاك، وتحرير طاقات استهلاك الخدمات، وتحسين جودة السلع والخدمات، كُلها خطوات تهدف إلى بناء سوق محلية قوية تكون صمام أمان في وجه التقلبات العالمية، وتمنح الاقتصاد الصيني مرونة أكبر في التعامل مع الضغوط الخارجية. وأجدُ أن التركيز على الابتكار العلمي والتكنولوجي، وخاصة الذكاء الاصطناعي وتطوير قوى إنتاجية حديثة النوعية، يعكس إدراكًا عميقًا لطبيعة المنافسة الدولية المقبلة؛ فالصراع الاقتصادي في العالم لم يعد يدور حول الموارد فقط؛ بل حول التكنولوجيا والمعرفة وسلاسل القيمة المتقدمة، والصين من خلال هذا المؤتمر ترسل إشارة واضحة بأنها عازمة على أن تكون في قلب هذه التحولات لا على هامشها.
والإصرار على تعميق الإصلاح والانفتاح المؤسسي- رغم الأجواء الدولية المتوترة- يحمل رسالة ثقة بالنفس ومسؤولية دولية في آنٍ واحد، فالمضي قدمًا في تطوير ميناء هاينان للتجارة الحرة، وتوسيع الانفتاح في قطاع الخدمات، ودعم التجارة الرقمية والخضراء، كلها خطوات تؤكد أن الصين لا تنكفئ على ذاتها؛ بل تبحث عن شراكات أكثر توازنًا واستدامة مع العالم. ومن زاوية اجتماعية، أجد أن التركيز على تحسين معيشة المواطنين، واستقرار التوظيف، ومعالجة قضايا التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، يعكس فهمًا عميقًا بأن أي تنمية اقتصادية لا تترسخ دون أساس اجتماعي متين، فالاستقرار الاجتماعي ليس نتيجة للنمو فقط؛ بل شرط أساسي لاستمراره.
في المحصلة وفي نهاية هذا المقال، يجب القول إن مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي لم يكتفِ بتخطيط عام 2026؛ بل وضع إطارًا ذهنيًا وسياسيًا للمرحلة المقبلة. إطار يقوم على الثقة دون تهور، وعلى الإصلاح دون قطيعة، وعلى الانفتاح دون تفريط، وبرأيي أن هذا النهج المتزن هو ما يمنح الاقتصاد الصيني قدرته على مواصلة التقدم بثبات في عالم يموج بعدم اليقين اقتصاديًا وسياسيًا، بينما الصين تمضي بخطوات ثابتة نحو تحقيق أهدافها المنسجمة مع الأهداف العالمية.
** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية- العربية
