فوزي عمار
في اللحظة التي بدا فيها المشهد الإقليمي وكأنه انسلخ من مصر، وجفّف منابع نفوذها، إذا بالأحداث تثبت أن الجميع، بمن فيهم أولئك الذين حاولوا تهميشها، هم في حاجة إلى "الوسيط الأمين".
فمصر لم تكن يومًا طرفًا في الصراع؛ بل كانت ولا تزال الحَكَم الذي يلجأ إليه الجميع عندما تتعقد الأمور. هذه الثقة لم تكتسبها مصر بشعارات أو بخطابات نارية؛ بل بمواقف تاريخية رسّخت في وجدان الشعوب أن مصر "أم الدنيا" التي لا تتخلى عن أبنائها، حتى ولو اختلفت مع حكامهم.
وها هي اليوم، في اتفاق شرم الشيخ الذي جلب السلام لأهل غزة تُثبت مرة أخرى أنها "الحاضنة" التي لا بديل عنها؛ فبينما كانت الساحات الإقليمية والدولية تعُج باللقاءات والاتفاقيات التي استُبعدت منها، كانت هي تعمل في صمت، تبني تحالفاتها بعيدًا عن الأضواء، وتُعيد ترتيب أوراقها بعيدًا عن ضجيج الإعلام. كانت تدرك أن "الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن" دائمًا، لكنها تعرف أيضًا كيف تتعامل مع التيارات حين تهب عاتية. حوّلت أزمة تهجير الفلسطينيين إلى قضية رأي عام عالمي، وجعلت أكبر القوى تعود لتعترف بدورها المحوري.
ولقد حوّلت أزمة السد الإثيوبي من تهديد وجودي إلى قضية دولية يشارك فيها العالم كله.
لا تنسَ أن مصر هي دولة "المؤسسات"، هذا هو سرّ صمودها. فبينما كانت الدول من حولها تتهاوى بفعل نزوات قادتها ومغامراتهم " كانت مصر تبني دولتها بعناية، طبقة تلو الأخرى، حتى أصبحت "البناية" الوحيدة التي ما زالت قائمة في حي مليء بالفوضى. هذا لا يعني أنها بمنأى عن الخطر، لكنها تملك من "المناعة" ما يجعلها قادرة على مواجهة العواصف.
الثقل المصري ليس وهمًا أو حلمًا من الماضي؛ بل هو واقع قائم بفضل إرادة شعب يعرف أن "اللي إيده في المية مش زي اللي إيده في النار".
لقد اختارت مصر أن تبقى يدها في المية، تبرّد بها نار المنطقة، بدلًا من أن تزيدها اشتعالًا. وهذه هي "التميمة" التي قد لا تكون سرًا غامضًا؛ بل هي ببساطة "الحكمة" في أبهى صورها. حكمة تعرف أن قوة مصر الحقيقية ليست في قدرتها على خوض الحروب؛ بل في قدرتها على إطفائها. وليس في قدرتها على إسقاط الأعداء؛ بل في قدرتها على تحويلهم إلى شركاء. وليس في صخبها؛ بل في صمتها الذي يقول الكثير.
إذا كان هناك سر فهو اسمه "الشعب المصري".. شعب يعرف أن "ربنا بيحب المصريين".. ليس تفضيلًا؛ بل لأنهم تعلموا أن يكونوا دائمًا "أهل الثقة والأمانة". هم من يصنعون المعجزات عندما يظن الجميع أن دورهم تراجع، وخير الكلام عن مصر كلام الله حين قال في محكم كتابه: "ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ" (يوسف: 99).