فوزي عمار
في عام 2025، أعلن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أن العلاقات مع مصر تمر بأفضل فترة في التاريخ الحديث. هذا التصريح لم يكن عابرًا، بل كان تتويجًا لمسيرة تصحيح مُتأنية لبوصلة السياسة الخارجية التركية، التي تتجه الآن بقوة نحو العالم الإسلامي، في مفارقة تاريخية بعد عقود من السعي للاندماج في نادٍ أوروبي "مسيحي" رفض عضويتها في النهاية وهو الاتحاد الأوروبي.
لكن.. ما الذي دفع تركيا، التي حاولت قبل سنوات محاصرة مصر عبر التحالف مع دول مثل السودان وتشاد وتونس، للعودة إلى حظيرة العالم الإسلامي؟ وهل يمكن أن نطلق على هذا التحول تسمية "تصحيح البوصلة"؟
لم يكن رفض الاتحاد الأوروبي لانضمام تركيا حدثًا سهلًا، فقد مثَّل صدمة استراتيجية عميقة لأنقرة؛ إذ كانت تركيا على مدار عقود تتطلع غربًا، وتدفع بثقلها لتكون جسرًا بين الشرق والغرب. لكن هذا الحلم اصطدم بحقيقة أن الاتحاد الأوروبي ظلَّ "ناديًا مسيحيًا" في نظر الكثيرين؛ حيث اعترضت دول أوروبية عدة على انضمام دولة ذات غالبية مسلمة وكبيرة مثل تركيا وعلى رأسها ألمانيا.
بعد هذا الرفض، بدأت تركيا في إعادة تقييم أولوياتها الجيوسياسية تحت قيادة الرئيس أردوغان، الذي رفع شعار جعل تركيا عظيمة مرة أخرى. وجدت تركيا نفسها أمام خيارين إما البقاء على هامش أوروبا، أو التحول إلى قوة إقليمية رائدة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي فاختارت المسار الثاني.
الصراع في البحر الأحمر والتمدد الإسرائيلي بعد اعترافها بأرض الصومال خاصة وأن تركيا تملك قاعدة عسكرية في الصومال، ما جعل النفوذ الإقليمي يتغير دراماتيكيًا.
ويدفع بهذا التوجه أيضًا تحول جيوسياسي عالمي يتمثل في التراجع النسبي للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، مما خلق فراغاً تسعى تركيا لملئه. كما أن تقلص الاعتماد على العولمة أعاد التركيز على الجغرافيا (أشرت في مقال سابق بعنوان من العولمة الى المناطقية).
ان الاهتمام بالجغرافيا فهي قدر الأمم مما يعطي تركيا بموقعها الفريد بين أوروبا وآسيا ميزة إستراتيجية وتنافسية عالية.
ويُعد الموقف من إسرائيل أحد أبرز محركات هذا التحول التركي. في السنوات الأخيرة، تصاعدت التوترات بين تركيا وإسرائيل، وخاصة بعد الحرب على غزة الاخيرة وقد بلغت هذه التوترات ذروتها عندما قامت تركيا بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الحربية الإسرائيلية، ووصفت الحرب بالإبادة الجماعية المستمرة في فلسطين.
فهل هذا الموقف المتشدد مجرد خطاب عاطفي أم جزء من إستراتيجية تركية شاملة لمواجهة ما تراه تهديدًا إسرائيليًا متناميًا لأمنها القومي ومصالحها الإقليمية؟
وتعد المصالحة مع مصر والسعودية أبرز مؤشر على نجاح تركيا في تصحيح بوصلتها الإقليمية. فبعد سنوات من التوتر والخلافات السياسية، تشهد العلاقات التركية المصرية الآن أفضل مراحلها في التاريخ الحديث، خاصة بعد استئناف المناورات العسكرية المشتركة عادت مناورات بحر الصداقة البحرية المشتركة بين تركيا ومصر في سبتمبر 2025 لأول مرة منذ توقفها عام 2013، بهدف تطوير العلاقات وتعزيز القدرة على العمل المشترك. ايضا انضمت تركيا مع سبع دول ذات أغلبية مسلمة، بما في ذلك مصر والسعودية، إلى بيان مشترك يحذر إسرائيل من أي محاولة لترحيل سكان غزة إلى مصر عبر معبر رفح.
التوجه التركي شرقا يشمل قواعد عسكرية في الصومال واتفاقيات مع النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد، وقواعد في قطر واتفاقيات مع الأردن وأذربيجان وتواجد عسكري في غرب ليبيا وتعاون دفاعي مع باكستان. ايضا تستخدم تركيا قوتها الاقتصادية والناعمة لتعزيز نفوذها عبر آليات متنوعة اذ تخطط لتنفيذ مشروع طريق التنمية التركي-العراقي البالغ قيمته 17 مليار دولار لتعزيز نفوذها اللوجستي وتقديم قروض ومنح للدول الأفريقية.
وسيواجه الطموح التركي للزعامة واستجلاب ذاكرة تاريخ استعماري عثماني لأرض العرب ومنافسة حتمية من قوى إقليمية أخرى مثل مصر والسعودية وإيران، والتي قد لا ترى في تركيا قائدة طبيعية للعالم الإسلامي كما يؤدي الانتشار العسكري الواسع إلى خطر التمدد الزائد (خاصة غير المرحب به في ليبيا)؛ حيث قد تتجاوز الالتزامات القدرات الحقيقية لتركيا، خاصة في ظل تحديات ومشاكل اقتصادية داخلية؛ إذ تواجه تركيا تحديات اقتصادية جسيمة، مثل التضخم وتراجع العملة، والتي قد تقوض في المدى الطويل قدرتها على تمويل طموحاتها. ويبقى التحدي بين الحلم والواقع.
تختار تركيا اليوم بوصلتها نحو الشرق والعالم الإسلامي بدافع من الاعتبارات الجيوسياسية والهوية الدينية. هذا التحول ليس مجرد ردة فعل على الرفض الأوروبي، بل هو إستراتيجية واعية لملء فراغ القوة في منطقة تعاني من عدم الاستقرار.
غير أن نجاح هذه الاستراتيجية في تصحيح البوصلة التركية بشكل دائم مرهون بقدرة أنقرة على تحقيق توازن دقيق تطوير تحالفات حقيقية في العالم الإسلامي بدلًا من فرصة الهيمنة، وإدارة تنافسها مع القوى الإقليمية الأخرى بطريقة بناءة، ومعالجة أزماتها الاقتصادية الداخلية التي تشكل تهديدًا لأي طموح خارجي.
وعلى عكس سياساتها السابقة في عقد العداء مع جيرانها، تقدم تركيا اليوم نفسها كحلقة وصل وقوة دافعة للاستقرار. وفي عالم تتسارع فيه التحولات، قد تجد تركيا في بوصلتها الجديدة خريطة الطريق الأكثر أمانًا نحو المستقبل الذي تصبو إليه أن تكون لاعبًا رئيسيًا لا يستغنى عنه في شرق مضطرب يبحث عن قيادة والاهم تعاون مشترك وشراكة الرابح رابح لا فرض هيمنة.
