أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي **
تجارب الآخرين فيها عِظة وعِبرة، ودراسة هارفارد التي ذكرنا بعضاً منها غنية بقصص حياة الأفراد الذين خضعوا للدراسة، فلقد تناولت حياتهم منذ أن كانوا صغارًا حتى بلغوا من العمر عتّيًا، في المقالات القادمة سنتناول بعض الأفراد الذين يمكن أن نخرج بدروس قيّمة من حياتهم وما مروا به من ظروف.
جون وليو شابان تخرجا من جامعة هارفارد عام 1946، أحدهما تخرج في القانون والآخر تخرج في قسم التاريخ، كلاهما خدما في الجيش في الحرب العالمية الثانية، بينما كانت عائلة جون ثرية، كانت عائلة ليو فوق الطبقة المتوسطة ودون الطبقة الثرية، كانت أمنية والد جون أن يلتحق جون بشركاته لإدارتها، لكن جون فضل دراسة القانون الذي كان يرغب في دراسته بشدة، ونجح في إقناع والده بذلك، وبالفعل بعد أن تخرج جون في القانون حقق نجاحا باهرا وعد واحدا من أنجح الأفراد على الصعيد المهني الذين خضعوا لدراسة جامعة هارفارد، أما ليو بالمقابل فلقد واجه ظروفاً أسرية صعبة للغاية، اذ توفي والده بعد أن تخرج وأصيبت والدته بمرض باركنسون وباعتباره الابن الأكبر لثلاثة من الأشقاء اضطر ليو أن يبقى مع أسرته لرعاية والدته وإخوته، وعمل بمهنة مدرس لمرحلة الثانوية، ولم يحقق ليو طموحه بأن يكون كاتباً أو صحفيًا بل ظل يعمل في مهنته كمدرس لمدة أربعين عامًا.
وفي عام 1975، كان جون محاميًا مشهورًا، ويبلغ دخله السنوي 52000 دولار بينما يبلغ دخل ليو 18000 دولار سنويًا، وكان مُدرِّسًا بسيطًا لا يعرفه أحد سوى محيطه الصغير وطلبته.
لكن بالمقابل كان هناك تشابه بينهما في أمور كثيرة؛ فكلاهما كان متزوجًا وكلاهما أب لولدين، وكانا حريصين على الحضور للكنيسة صباح الأحد؛ بل كانا متشابهين أيضًا في عاداتهما اليومية، وتوجهاتهما السياسية أيضًا.
لنستمع إلى إجابات جون وليو على الأسئلة التي أجابوا عليها عام 1975، وذلك بعد تخرجهما بتسعة وعشرين عامًا. وبعد كل تلك الخبرات التي اكتسبوها، أكد جون بأن الحياة بها من الآلام والمحن أكثر من الأمور التي تسعدنا وتشعرنا بالرضا، بينما أكد ليو أنَّ الحياة مليئة بأمور تغمرنا بالسعادة والرضا، كان جون يقر بأنه يتوق دومًا لدفء الحب والعاطفة، بينما ليو نفى هذا الشعور بشكل قاطع.
ترى ما هو السر الذي جعل جون يعيش كل هذه التعاسة على الرغم من أن حياته كانت تقترب إلى الحياة الحالمة؟! فلقد استطاع أن يحصل على تعليم راقٍ جدًا، ووظيفة تُدر عليه دخلًا رائعًا ومقامًا اجتماعيًا مرموقًا، وفوق هذا وذاك هو من أسرة غنية!
أرجع الباحثون ذلك إلى عبارة طُلب من جون أن يكملها وهي عبارة: "يشعر المرء بالرضا حينما...؟". وكانت إجابة جون: يستجيب لدوافعه وأهدافه الداخلية.
هذه العبارة توضح أن جون سعى جاهدًا أن يجعل نفسه سعيدًا من خلال الاستجابة لدوافعه الداخلية، وكان منشغلًا في جميع مراحل حياته في تحقيق ذلك، مما جعله لا يهتم كثيرًا بأسرته ومحيطه ومجتمعه ولا يُعطيهم من وقته الكثير، فلقد كان مُنشغلًا بتحقيق أحلامه وتلبية دوافعه ورغباته الداخلية، أما ليو ذلك الإنسان البسيط الذي لم يظهر يومًا على شاشة التلفاز، ولم يحقق أمنيته وضحى بطموحه من أجل أسرته، فقد وصفه الباحثون بأنه واحدٌ من أسعد الرجال في هذه الدراسة، ترى ما سر سعادته على الرغم من فشله في تحقيق طموحه!
توصل الباحثون في هذه الدراسة إلى أن أحد أهم مصادر السعادة والشعور بالرضا، عندما يفكر في نفسه من خلال ما قدمه من عطاء للآخرين وما أنجز وحقق من احتياجات وطموح الآخرين، وكانت هذه هي ميزة ليو، فقد لاحظ الدراسون أن ليو كان يكثر الحديث عن عائلته وأصدقائه وطلبته في إجابته على الأسئلة التي تطرح عليه، وفي مقابلاته التي كانوا يعملونها.
وهذا يعني أن علينا أن نُربّي أبناءنا ونوضح لهم أن بإمكانهم العيش بسعادة ورضا بمختلف الطرق والأساليب، وأن عدم قدرتهم على تحقيق حلمهم، لا يعني أن السبل قد انقطعت بهم وأن حياتهم ستنقلب إلى جحيم؛ بل ذلك يعني أن عليهم أن يغيروا وجهتهم، ولكن عليهم في كل حال أن يخرجوا من دائرة الأنا ويفكروا في الآخرين، فتلك هي من أهم أسرار الشعور بالسعادة والرضا.
إنَّ سعادة ليو بحياته ورضاه، انعكس على صحته بصورة واضحة، فلقد عاش حياته وهو ينعم بالصحة؛ بل حتى زوجته كانت تنعم بالصحة والعافية طوال حياتها، بينما كان جون يعاني من أمراض وآلام كثيرة وكذلك زوجته، على الرغم من أنهما كانا يعيشان في قصر مقارنة بالبيت الذي كان يعيش فيه ليو مع زوجته.
علينا أن ندرك أن الانشغال في تحقيق الأحلام الشخصية على حساب أسرتنا ومجتمعنا لن يمنحنا السعادة؛ بل ربما سيكون طريقنا إلى الشقاء، مالم نضع في أذهاننا أننا نهدف من تحقيق أحلامنا أن نفيد الآخرين، فالطبيب الذي يسعى لمجد شخصي لن يحقق السعادة التي سيحققها الطبيب الذي يسعى لرسم البسمة فوق شفاه المرضى وذويهم، ومن يجمع المال لينال ما يبتغيه من حطام الدنيا ويحظى بالمنزلة الاجتماعية لن يحقق سعادة الآخر الذي يسعى للمال ليخفف به عن الفقير ويكسو العاري ويشبع الجائع.
ولهذا.. علينا أن نتذكر دائماً أن ما أنجزناه على المستوى الشخصي، لا يمنحنا الرضا والسعادة ما لم يصاحبه عطاء سخي من وقتنا وجهدنا ومالنا للأسرة والمجتمع؛ إذ إنَّ سِر سعادة المرء بعطائه لا بتحقيق أحلامه.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس