دراسة هارفارد الطويلة الأمد عن النمو البشري (8)

 

 

 

أ.د. حيدر أحمد اللواتي **

 

رأينا كيف أن سترلينج، لم يكن سعيدا في حياته وكيف كانت الوحدة قاتلة وسبب رئيسي في تعاسته، وذلك على الرغم من أنَّه لم يكن يُعاني ماديًا أو صحيًا، إلا أن إهمال أولاده له، جعله يشعر بهذه الوحدة القاتلة.

لكن العتب لا يقتصر على أبنائه فحسب؛ بل يتحمل سترلينج جزءًا من المسؤولية، فالعلاقات الاجتماعية لا يُمكن في العادة حصرها بسبب واحد؛ بل هي نتيجة لشبكة من العلاقات؛ فالأب لا بُد وأن يَمنح الأبناء في مختلف مراحل حياتهم اهتمامًا خاصًا، بحيث يشعرون بأنَّ هذا الإنسان يعطيهم إحساسًا خاصًا بالأمان والثقة، لا يجدوه في أي شخص آخر؛ فهو سندهم الذي يتكئون عليه، فإذا استطاع الأب القيام بذلك، فإنَّ الأبناء سيجدون من الصعوبة بمكان أن يبتعدوا عنه؛ لأنه سيخلُف فراغًا لا يمكن سده في حياتهم، لهذا على الآباء أن يُعطوا أهمية بالغة للوقت الذي يقضونه مع الأبناء، بحيث يجعل تجربة الأبناء معه تجربة فريدة من نوعها لا يُمكن أن تتكرر مع الآخرين.

بعض الآباء- لا شك- يشعرون بأنهم جزء من المشكلة وأن علاقتهم وعطاءهم لأبنائهم لم يكن بالمستوى المطلوب وأنهم يجنون ما زرعوه فيهم، لكن الغالبية قد تلوم الظروف الصعبة التي مر بها في حياته، فأسرته لم تكن مستقرة، أو كانت فقيرة ولم توفر له الحياة الكريمة، أو محيطه الاجتماعي وأصدقاء السوء كانوا هم السبب في ذلك.

لنستمع إلى قصة نيل ماكرثي، أحد أفراد دراسة هارفارد، وكانت أول مقابلة للباحثين معه في نوفمبر عام 1942، وكان عمره آنذاك 14 سنة، وقد عاش نيل في أسرة فقيرة، لكنها في صغره كانت أسرة مُحبة، ومُتعاونة بقدرٍ كبيرٍ، كان نيل يبيع الجرائد ليكسب بعض المال. وفي أيام الأحد ينتقل إلى حي قريب غني ليقوم بتنظيف الأحذية، وكان يقوم بجمع المال ويُسلِّم أغلبه لأمه حتى تصرفه في احتياجات الأسرة، لم تكن أسرة نيل صغيرة، فلقد كان عدد أفراد أسرته 6 إخوة وأخوات بالإضافة إلى الأب والأم.

في هذه الأسرة نشأ نيل وعاش طفولته، أسرة فقيرة، يعمل جميع أفراد الأسرة ليلبوا طلبات الحياة واحتياجاتها، لكنها كانت أسرة مُحبة ومتعاونة، وظلت الأسرة على هذا الحال حتى بلغ نيل مرحلة المراهقة؛ حيث انقلب حال الأسرة رأسًا على عقب وتشتت شملها، والسبب في ذلك هو الكحول الذي هيمن على حياة والدته، تلك الأم التي طالما كانت مُرشدته، وكان يكن لها كل الحب والاحترام، لكن الخمرة تمكَّنت منها وغدت لا تفرقها ليل نهار، وأدخلها ذلك في شجار مستمر مع زوجها. في هذه الظروف عاش نيل فترة المراهقة، أثرت عليه بشكل كبير، لم يستطع تحمل الخلافات الأسرية المستمرة بين أبيه وأمه، وما عاد قادرا على المكوث في المنزل، وعند عمر 19 غادر المنزل، والتحق بالجيش.

وبعدها بسنوات التقى بفتاة أحلامه جيل وتزوجها لينجب منها 4 أولاد، وفي عمر السادسة والخمسين كان نيل فخورًا بأولاده، فعلى الرغم من أنه عاش في البداية طفولة بائسة من الناحية المعيشية وكافح من أجل لقمة العيش إلّا أنها كانت دافئة ومليئة بالحب، وفي فترة المراهقة، عاش حياة صعبة إثر إدمان أمه للكحول، وكان لكلا التجربتين أثر عميق عليه، ومع ذلك استطاع نيل أن يستند إلى تجاربه الإيجابية ليضع تجاربه السلبية في منظورها الصحيح، بدلاً من العكس، ولهذا نجح في إيجاد علاقة رائعة وقوية مع أولاده، تحدث إلى باحثي هارفارد قائلًا "الخصومة، والشرب، والصراخ، لم أرغب في أن يمر أطفالي بتلك التجارب، ولم أرد أن أعايشها أنا شخصيًا، أبدًا مرة أخرى".

تصف ليندا ابنته تأثير والدها في حياتها -وهي من الجيل الثاني من الدراسة وأبوها نيل من الجيل الأول- (عندما أفكر في والدي، أشعر بالعاطفة لأنَّه جاء من وضع مُختلف تمامًا، مرّ بأوقات صعبة عندما كان طفلاً وانفصلت عائلته، لم يكمل المدرسة الثانوية، وذهب إلى الحرب، وخرج من كل ذلك واستعاد توازنه وبطريقة ما لا يزال أبًا رائعًا، دائمًا موجودًا من أجلنا، ومحب لنا، كان بإمكان حياته أن تأخذ اتجاهًا مُختلفًا تمامًا، لدي احترام كبير له).

لقد قدَّم لنا نيل ماكرثي مثالًا حيًّا على قدرته الفائقة على التفريق بين تأثير التجارب الإيجابية والسلبية في حياته، فلم يسمح لصعوبات الطفولة والمُراهقة بأن تكسر روحه أو تشل مستقبله، بل استند إلى القيم والمحبة التي عاشها ليُعيد بناء علاقته مع أبنائه بطريقة مُختلفة تمامًا عن تلك التي عاشها هو.

إنَّ ماضينا، مهما كان مظلمًا أو مُؤلمًا، لا يُحدِّد مستقبلنا بشكل مطلق، فنحن أحرار في اختيار كيف نتعامل مع تجاربنا، وكيف نحولها إلى دروس تدفعنا نحو الأفضل.

هذه القدرة على الموازنة والتقييم الواقعي للتجارب هي ما يُمكن أن ينقذنا من تكرار أخطاء الماضي، ويمنحنا فرصة لنخلق روابط أقوى وأعمق مع من نحب، كما تعلمنا من قصة نيل، أن الحب والاهتمام والوعي بتأثيرنا على الآخرين، خاصة أبنائنا، لذلك علينا أن نسعى لفهم تجاربنا، وأن نمنح لأنفسنا فرصة لإعادة البناء، بغض النظر عن الظروف التي نشأنا فيها أو التحديات التي واجهناها.

الحياة رحلة مُعقدة ومليئة بالتقلبات، لكن بعيون واضحة وقلب متوازن، يمكننا أن نجد طريقنا نحو حياة أكثر استقرارًا وسعادة، ونترك أثرًا إيجابيًا يدوم في حياة أبنائنا.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

الأكثر قراءة