الدلالة الصوتية بين البنية والإيقاع.. دراسة في شعر أحمد مطر

 

دعاء خميس جابر **

الأعمال الأدبية، لا سيّما الشعر؛ ليست إلا مجموعة من الأصوات المُؤدِّية معنى، ويلعبُ النسق الصوتي فيها دوراً كبيراً؛ لذلك ينبغي الاهتمام بالصّوتيّات ودلالاتها، وبِخَاصَّةٍ أنها -في الغالب- تخرُج بشكلٍ غير مقصودٍ من الشَّاعر، ومِنْ ثَمَّ يُمكن الحُكم بها على مدى صدق الشاعر؛ فلا أعتقد أنّ شاعرًا ينظم قصيدة ثائرةً، تُعبِّر عن هجومٍ شديدٍ على أمرٍ ما؛ ويقوده انفعاله إلى حروف الهمس مثلاً، بل إِنْ صَدَقَ فِي شُعُورِه؛ فإنه يَتَّجِهُ لا إراديًّا إلى كلماتٍ بها حروفٌ مجهورة؛ لأنها ستُساعده على تفريغ طاقته الغاضبة.

فالدلالة الصوتيَّة «تُستَمدُّ من طبيعة بعض الأصوات؛ فكلمة (تَنْضَخُ) -كما يُحدِّثُنا كثيرٌ من اللغويين القُدماء- تُعبِّر عن فوران السائل في قوّةٍ وعُنفٍ، وهي إذا قورنتْ بنظيرتها (تَنْضَحُ)، التي تدلُّ على تسرُّب السائل في تؤدةٍ وبُطءٍ، يتبيّنُ أن صوت الخاء في الحالة الأولى له دخلٌ في دلالاتها؛ فقد أكسبها -في رأي أولئك اللغويين- تلك القوّة وذلك العنف، وعلى هذا فالسامع يتصوّر بعد سماعه كلمة (تنضخ) عينًا يفور منها النَّفط فورانًا قويًّا عنيفًا»(1)

وبذلك تظهر القيمة الدلاليّة الكُبرى للمُؤثرات الصوتيّة، التي يجب مُراعاتها عند تحليل النص؛ حيث «إنّ كل قراءة للقصيدة تربو على القصيدة الحقيقية ذاتها، وكُلّ أداءٍ لها يُضيفُ للقصيدة عناصر خارجية من لَزَماتٍ فرديَّةٍ للقارئ، تتعلّق بالنُّطْق، وطبقة الصوت، والسرعة والتوقيت، وتوزيع النبر»(2) وبتطبيق ذلك على قصائد رفض اتفاقية السلام نجد أنَّ بعض الأصوات برزت في قصائد مُعيّنة، وذلك كانتشار حرف السين في قول أحمد مطر:

تِسْعٌ عَلَى أَعْقَابِ تِسْعٍ تَسْعَى..

إِلَى سَلامٍ عَادِلٍ،

بُورِكَ هَذَا المَسْعَى

بَينَ عَدَالَةِ (العَصَا)

وبَينَ سِلْمِ (الأَفْعَى)!(3)

إن حرف (السِّين) يتّصف بأنَّه «مهموسٌ رخوٌ»(4)، وقد تكرّر في هذه الأبيات القليلة بشكلٍ لافتٍ، «ولعلّ توظيف الشاعر لهذا الصوت بشكلٍ مُكثّف قد كشف عن الخيبة التي ستلحق بالأمة من جَرَّاء هذا السلام؛ فهو مشوبٌ بالغدر والترقُّب والتوجُّس، كما أنّ هذا الصوت يُوحي بالهمس والسِّرِيَّة اللتَينِ تشيانِ بطبيعة هذا السلام» (5)، وقد دلَّ حرف (السِّين) على ذلك بشكلٍ واضح... كما نلحظ جليًّا اتساع رُقعة صوت الراء في قصيدة (الثور والحظيرة)؛ حَتَّى إنِّه لا يخلو بيتٌ منه في القصيدة، يقول:

الثَّورُ فَرَّ مِنْ حَظِيرَةِ البَقَرْ.

الثَّورُ فَرْ.

فَثَارَتِ العُجُولُ فِي الحَظِيرَة

تَبْكِي فِرَارَ قَائِدِ المَسِيرَة

وَشُكِّلَتْ عَلَى الأَثَرْ

مَحْكَمَةٌ..وَمُؤْتَمَرْ.

فَقَائِلٌ قَالَ: قَضَاءٌ وَقَدَرْ.

وَقَائِلٌ: لَقَدْ كَفَرْ.

وَقَائِلٌ: إِلَى سَقَرْ.

وَبَعْضُهُمْ قَالَ: امْنَحُوهُ فُرْصَةً أَخِيرَة

لَعَلَّهُ يَعُودُ لِلْحَظِيرَة.

وَفِي خِتَامِ المُؤْتَمَرْ

تَقَاسَمُوا مَرْبِطَهُ.. وَجَمَّدُوا شَعِيرَهْ.

وَبَعْدَ عَامٍ، وَقَعَتْ حَادِثَةٌ مُثِيرَة

لَمْ يَرْجِعِ الثَّوْرُ

وَلَكِنْ

ذَهَبَتْ وَرَاءَهُ الحَظِيرَة! (6)

ويتّصف حرف (الراء) بالتكرير الصوتي؛ لأنه يقوم على اهتزاز اللسان فيظهر كأنه حرفٌ مُكرَّر؛ فكما أنّ «مفاصل الجسد تُساعد أعضاءه على التحرُّك بمرونة في كل الاتجاهات، وعلى تكرار الحركة المرّة بعد المرّة؛ فإنّ حرف (الراء) بِتَمَفْصُلِ صوته (ر.ر.را)، وبرشاقة طرف اللسان في أدائه، قد قدّم للعربيّ الصور الصوتيّة المُماثلة للصور المرئيّة التي فيها ترجيعٌ وتكرار، وتأرجحٌ ذات اليمين وذات الشمال»(7)، وأعتقد أنّ هذا الوصف بإمكانه تفسير شيوع (الراء) في قوله: (الثور فر)؛ حيث يُشير إلى تكرار الخِذلان في الحُكَّام العرب، تكرار الانهزام والاستسلام، الاضطراب والتردُّد في اتخاذ القرار؛ فالفكرة الرئيسة التي قصدها الشاعر، هي تكرار الحُكَّام لما استنكروه سابقًا من فعل السادات واحدًا تلو الآخر، وصوت (الراء) هو أكثر الأصوات دلالة على هذا المعنى لِمَا فيه من إعادة للصوت، ولاهتزاز اللسان واضطرابه عند النُّطْق به.

كان أحمد مطر يشعر بالحزن والإحباط من الوضع العربي، وظهر حزنه في قصيدة (سلامًا أيَّتُها الحرب)، التي عبّرتْ عن مدى اضطرابه من جَرَّاء صُلْح الحكومات مع العدو، وقمعها لأبناء الوطن؛ فأصبح العدو حبيبًا والحبيب عدوًّا، وصار كل شيءٍ يمشي في الاتجاه المُعاكس... وبالنظر إلى الكلمات (صوتيًّا) نُلاحظ انتشار حروف المدِّ واللين بشكلٍ واضح في اللافتة، يقول:

طُولَ أعْوَامِ الخِصَامْ

لَمْ نَكُنْ نَشْكُو الخِصَامْ

لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُ طَعْمَ الفَقْدِ

أو فَقْدَ الطَّعَامْ

لَمْ يَكُنْ يَضْطَرِبُ الأمْنُ مِنَ الخَوفِ،

وَلا يَمْشِي إِلَى الخَلْفِ الأمَامْ.

كلُّ شَيءٍ كَانَ كَالسَّاعَةِ يَجْرِي

بِانْتِظَامْ.

هَاهُنَا جَيشُ عَدُوٍّ جَاهِزٌ لِلاقْتِحَامْ.

وَهُنَا جَيشُ نِظَامٍ جَاهِزٌ لِلانْتِقَامْ.

وَغَدَونَا، بَعْدَ أنْ كُنَّا شُهُودًا،

مَوضِعًا لِلاتِّهَامْ.

وَغَدَا جَيْشُ العِدَى يَطْرَحُنَا أرْضًا

لِكَي يَذْبَحُنَا جَيشُ النِّظَامْ!

أقْبِلِي، ثَانِيَةٌ، أَيَّتُهَا الحَرْبُ..

لِنَحْيَا فِي سَلامْ!(8)

فإذا كان عدد كلمات اللافتة أربع وستين كلمة؛ فقد جاء المدّ واللين في ثلاث وثلاثين كلمة منها، أيّ أن نصف كلمات القصيدة - تقريبًا - تحمل حروف المد واللين، وهذه «الحروف الليّنة أو الجوفيّة أو الهوائيّة أو الصائتة -كما يُسمّونها-؛ إنما هي بالفعل أسماءٌ على مُسمّيات» (9)؛ فهي تُمثّل نوعًا من الفراغ الحسّي والشعوري، ذلك الفراغ الذي عبّر عنه الشاعر الفرنسي رامبو عند وصفه لحرف (أُو) في الفرنسية، الذي يقابله (الواو) في العربية، بأنه يُوحي باللون الأسود لأنه معدوم الإيحاءات الحسيّة والشعوريّة (10).

كل ذلك يُفسّر انتشار المد واللين في تلك اللافتة الحزينة لأحمد مطر؛ فحروف المد واللين تسمح بخروج الهواء من الجوف إلى الخارج، ومن ثَمّ كانت مُتَنَفّسًا جيّدًا للشاعر لإخراج طاقة الحزن المكبوتة داخله، وزيادتها عن نصف اللافتة يعكس حجم الإحباط والحزن لديه، ولا يدُلُّ هذا إلا على صدق الشاعر في إحساسه بمُعاناة الوطن؛ حيث نطقتْ الأصوات بما يُعبِّر عن مكنون نفسه.

*********

المراجع والمصادر:

(1) إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط3، 1976م، ص46.

(2) رينيهويليك، أوستن وارين: نظرية الأدب، ترجمة عادل سلامة، دار المريخ، الرياض، 1412هـ - 1992م، ص198.

(3) أحمد مطر: المجموعة الشعرية، ص 183.

(4)حسن عباس: خصائص الحروف العربية ومعانيها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1998م، ص110.

(5) هشام حمد الكساسبة: شعرية الهجاء السياسي؛ دراسة في شعر أحمد مطر، ص12.

(6) أحمد مطر: المجموعة الشعرية، ص 21.

(7) حسن عباس: خصائص الحروف العربية ومعانيها، ص 84.

(8) أحمد مطر: المجموعة الشعرية، ص 282.

(9) حسن عباس: خصائص الحروف العربية ومعانيها، ص 100.

(10) المرجع السابق، ص 101.

** ناقدة مصرية

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z