د. إبراهيم بن سالم السيابي
حين اندلع "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، لم يكن مجرد عملية عسكرية عابرة؛ بل كان صرخة شعب محاصر منذ عقود. كان الهدف إعادة البوصلة إلى فلسطين وقبل غروب شمس المسجد الأقصى للأبد، وإسماع العالم أن هناك أمة تُدفن تحت الحصار والاحتلال، وأن الصمت لم يعد خيارًا. الفلسطينيون أرادوا أن يقولوا: نحن هنا، وهذه أرضنا، وهذا حقنا.
واليوم، بعد قرابة عامين من الحرب، المشهد مأساوي إلى حد يفطر القلوب: آلاف الشهداء، بينهم قادة كبار مثل إسماعيل هنية، محمد الضيف، ويحيى السنوار، وغياب حسن نصر الله الذي كان أحد رموز الصمود في الإقليم. قطاع غزة تحوّل إلى أنقاض وركام ويحتاج إلى سنين لإعادته كما كان، بما في ذلك المستشفيات والمدارس وشبكات المياه والكهرباء. قرابة مليوني إنسان مشرّد في العراء بلا مأوى يحاصرهم الموت في كل لحظة وفي كل مكان، بلا ماء، بلا طعام، بلا تعليم، بلا أفق، خصوصًا الأطفال الذين فقدوا حلمهم بالمستقبل. حرب غير متكافئة من طرف واحد تقريبًا، في ظل حصار خانق وإمكانات محدودة للمقاومة.
ونحن نتأمل هذا الدمار، دموعنا لا تجف مع كل دم أريق، مع كل روح زهقت، مع كل أم فقدت طفلها، مع كل طفل فقد طفولته، ومع كل أسرة طُمست وأُبيدت تحت الركام، هؤلاء الأبرياء، المدنيون، هم في قلوبنا، والدماء التي أريقت هي دماؤنا، والألم الذي شعروا به هو ألمنا نحن أيضًا.
وهنا يبرز السؤال المؤلم: هل كان طوفان الأقصى يستحق كل هذه التضحيات؟
قد يختلف الناس في الإجابة، لكن الطوفان نفسه فرض حقائق لا يمكن تجاهلها:
1- خيار المقاومة: لم يكن أمام الفلسطينيين طريق آخر. منذ 1967، الأرض تُسلب والمستوطنات تتوسع، والحصار يخنق حياة الناس. الاستسلام يعني التهجير والحرمان من الوطن
2- سقوط الأقنعة: الطوفان كشف زيف الشعارات الغربية عن الديمقراطية والحقوق، حين تُغفل مصالح الدول على حساب دماء الأبرياء.
3- شعوب ضد حكومات: الملايين خرجوا تضامنًا مع غزة، فيما حكوماتها انحازت جزئيًا أو كليًا لإسرائيل. الفجوة بين الضمير الشعبي والموقف الرسمي كانت واضحة.
4- اتضاح طبيعة الصراع: القضية ليست نزاعًا حدوديًا؛ بل صراع وجود وهوية. الفلسطيني متمسك بحق العودة والعيش بحرية على أرضه فهذه الارض ليست أي ارض انها أرض بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين بينما الطرف الآخر لا يقف طموحه إلى القضاء على الحلم الفلسطيني فحسب؛ بل اطماع واحلام لم يخفها عن اقامة دولته الكبرى.
5- عجز المؤسسات العربية والإسلامية: الوساطات كانت محدودة القيمة، تتحكم بها إسرائيل وتفرض شروطها، بينما لم يظهر تحرك عربي حقيقي مؤثر.
6- وعي شعبي عربي جامع: الشعوب العربية اجتمعت على كلمة واحدة: فلسطين في القلب، وأكدت أن غزة قضية كل العرب.
7- مواقف حكومية محدودة لكن بارزة: بعض الحكومات العربية وقفت مع إرادة شعوبها في دعم غزة والمقاومة، مثل الكويت، واليمن، وسلطنة عُمان، وقطر والسعودية، مؤكدين أن التضامن الشعبي لا يمكن تجاهله حتى لو اختلفت المواقف الداخلية في التفاصيل.
8- انهيار شرعية المؤسسات الدولية: الطوفان أظهر أن العالم يُدار بالقوة لا بالقانون، وأن الأمم المتحدة عاجزة أمام فيتو ومصالح القوى الكبرى.
9- أزمة إسرائيل الداخلية والعزلة الدولية: الهجوم كشف هشاشة الأمن الداخلي والانقسامات السياسية، فيما سياساتها واجرامها وحرب الابادة التي تشنها علة غزة، دفعتها نحو عزلة دبلوماسية متزايدة حتى بين حلفائها التقليديين.
10- تحولات إعلامية: صور ومعاناة المدنيين انتشرت على نطاق واسع، وأجبرت الإعلام الغربي على إعادة النظر في بعض سردياته التقليدية.
11- مسار قانوني جديد: توجيه قضايا جسيمة للمحاكم الدولية فتح باب مساءلة إسرائيل، وهو تحول مهم في مسار الصراع القانوني الدولي.
12- صمود اسطوري للمقاومة: رغم الخسائر والحصار، استمر الخيار العسكري والمقاومة، مؤكدًا أن الفلسطينيين لن يزاحوا بالقهر، وأن القضية الفلسطينية لم تُمحَ حتى تحت أصعب الظروف.
13- ترسيخ القضية الفلسطينية: الاعترافات الدولية بدولة فلسطين تتسارع، والوعي العالمي بأن الاحتلال لا يمكن أن يستمر أصبح واقعًا ملموسًا.
14- انهيار حلم التطبيع وموت "صفقة القرن": لم يعد موضوع التطبيع بديلًا عن حل الدولة الفلسطينية قابلًا للتطبيق، ومشروع "القرن" انتهى إلى الأبد. تهجير الفلسطينيين أصبح مستحيلًا في المستقبل المنظور، وأصبح واضحًا أن العالم بدأ يفهم أن الحل العسكري أو التهميش لن يمرّ بعد الآن.
في الختام.. "طوفان الأقصى" لم يكن مجرد موجة عابرة؛ بل هو فصل دموي في التاريخ، ودرس قاسٍ للعالم بأن الظلم لا يدوم. استمرار هذه الحرب يعني مزيدًا من المعاناة وإطالة دائرة الألم. الحل الوحيد أولًا هو إنهاء هذه المأساة ووقف هذه الحرب وبعدها الاعتراف الكامل بحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة، كاملة السيادة، على أرضهم. كل ما عدا ذلك ليس سوى استمرار للجحيم ونكوص عن العدل الإنساني. على العالم أن يختار: إما الحق والسلام، أو تحمل مسؤولية التاريخ أمام شعب ضائع ومظلوم لا ذنب له سوى أنه عربي فلسطيني.