د. إبراهيم بن سالم السيابي
غادر عالمنا بالأمس شاب، كان يُمثل جزءًا من مستقبل هذا الوطن، جزءًا من حلمه وطموحه، جزءًا من ثروته الحقيقية: وهو الإنسان. لم يكن سبب رحيله إلا حادث مروري، كغيره من الحوادث التي تتكرر أمام أعيننا، دون أن ننجح في وقف نزيفها. رحيله لم يترك فراغًا في الطرقات فقط، بل في الذكرى، وفي نفوس كل من عرفه، وفي القلوب التي أحزنها غيابه.
لقد أكّد ديننا الحنيف أنَّ الموت حقيقة لا مفر منها، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأنه قدر الله المحتوم الذي لا يتجاوز حكمه إنسان ولا قوة. يقول الله تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور" (آل عمران: 185).
الموت إذن ليس نهاية بلا معنى؛ بل تذكير بأن حياتنا قصيرة، وأن كل لحظة مهمة، وأن كل أثر نتركه له قيمته أمام الخالق. وفي هذا التأمل الإيماني، يجد الإنسان دعوة للتواضع، وللتفكر في دوره، وللتقرب مما يليق به في هذه الحياة قبل الرحيل.
الموت يذكّرنا بأن العمل في الدنيا واجب، ليس غاية بحد ذاته، بل طريقًا إلى الآخرة، دار البقاء والجزاء. نعبد الله فيه أولًا، ونسعى لمرضاته، ثم نعمل فيها لأجل أنفسنا، ولأجل الأسرة والمجتمع والوطن، ولأجل الأمة، على أمل أن نلقى الله بأثر صالح يشهد لنا لا علينا. ولأجل يوم الحساب الذي لا مفرّ منه، يوم تُعرض الأعمال وتُوزن النيّات، ويقف الإنسان فردًا بين يدي الله.
الموت ليس مجرد نهاية؛ بل معلّم صامت. يعلمنا أن كل ثانية حياة، وكل لحظة حب أو عطاء لها وزنها الحقيقي. إنه يفرض علينا التواضع أمام القدر، ويكشف هشاشة الإنسان أمام الزمن. كل فقد، كل وداع، كل رحلة صامتة، هي فرصة للتفكر الصادق في قيم الحياة، وفي أثرنا على من حولنا.
لكن من الملاحظ للأسف، كثير من مراسم الدفن تمر كدقائق عابرة بلا تقدير فالبعض مشغول بأحاديث جانبية وآخرون يلهون بهواتفهم النقالة؛ فمراسم الدفن تحمل درسًا عميقًا لكل من يفهم قيم الحياة. دقائق الوداع تكشف حجم الحياة التي عاشها الإنسان، وتجعلنا نسأل أنفسنا: هل استمعنا نحن، ونحن أحياء، إلى دروس الموت قبل أن يفوتنا الوقت؟
إذا نظرنا حولنا، نجد قصص الموت تحمل دروس الموت والحياة معًا؛ فأخبار الموت ليست مجرد أرقام على شاشات التواصل، بعض الأحيان قصص حياة انتهت فجأة، وأحلام توقفت بلا سابق إشعار. كل شخص يواجه هذه الحقيقة، وكل من يرى أحد أحبائه يفقد، يكون أمام دعوة صامتة للتفكر: ماذا يعني أن أعيش حقًا؟ هل أقدّر الوقت، وهل أعطي للحياة معناها قبل أن نغادر نحن أو يغادرنا الأحبة بلا وداع؟
والاستجابة لدروس الموت ليست ضعفًا، بل وعي حقيقي. الإنسان غالبًا يخاف مواجهة هشاشته وفقدان من يحب، فيغفل دروس الموت. لكنه حين يتأمل، يتساءل: هل أعيش حقًا؟ هل أعطي للحياة معناها قبل أن يفوت الأوان؟ هل أحب بصدق، وأعمل بإخلاص، وأقدّر اللحظة كما يجب، أم أترك الغفلة تبتلع كل ما هو ثمين؟
والموت يعلّمنا أن الوقت الحقيقي ليس ما نملكه، بل ما نعيشه بوعي. كل وداع، وكل فقد، وكل ألم، هو دعوة صادقة للتوقف، للتفكّر، ولإعادة ترتيب علاقتنا بالحياة قبل أن نفارقها أو نفارق من نحب.
ومن يدرك هذا الدرس لا يخرج أكثر حزنًا، بل أكثر وعيًا: يحب بصدق، ويعيش بعمق، ويقدّر اللحظة، ويترك أثرًا صالحًا لنفسه، ولمن حوله، ويهيئ نفسه لدار البقاء، وهي الآخرة.
كل ما نفعله اليوم، كل حب نقدمه، كل كلمة نختارها، كل ذكرى نخلقها، وكل وداع نعيشه، هو درس من الموت للحياة. فهل نقف أمام الحقيقة الكبرى، أم نغفل عنها كما نفعل في معظم أيامنا؟ هل نسمع صمت الموت، أم نواصل الركض في وهم السيطرة؟
الموت حاضر، والحياة تمضي، لكن معناها لا يُدركه إلا من توقف ليتأمل. من فهم رسالة الموت لم يزدْه ذلك خوفًا، بل منحه وعيًا أعمق بالحياة، فصار أصدق في حبه، وأصدق في عمله، وأحرص على أن يترك أثرًا يُذكر به بين الناس، ويثقل ميزانه في الآخرة.
ختامًا.. في عالم يعلو فيه ضجيج الحياة، يبقى الموت صامتًا، لكنه الأصدق تعليمًا. ومن استمع لذلك الصمت، أعاد ترتيب حياته، وأدى حق الله في قلبه وفعله، وعاش بما يليق بالوقت، وترك أثرًا لا يضيع، يُحسب له يوم الحساب.
