عندما ينضج التين والعنب

 

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

يروي التاريخ أنَّ الخليفة العباسي المُعتصم بالله، يوم صرخت المرأة المُسلمة في عمورية، لم ينتظر نضج التين والعنب، ولم يخضع لمنطق التوقيت المُريح الذي يُغلّف التردد باسم الحكمة. تحرّك لأنَّ القرار، في لحظته الحاسمة، لا يُقاس بالفصول؛ بل بكرامة الإنسان. ليس المقصود هنا سرد ما فعله المُعتصم في عمورية، فقد خُلّد نصره في التَّاريخ؛ بل التوقف عند ما جسّده ذلك الموقف في معنى القرار ذاته حين يُصبح التريّث تعطيلًا للواجب، والانتظار قبولًا بما لا يُقبل.

وفي لحظات التَّاريخ الفاصلة، لا يكون السُّؤال: هل الوقت مُناسب؟ بل: هل الصمت صار أثقل من الفعل؟ ولهذا تعود هذه الحكاية بإلحاح كلما نظرنا إلى واقع أوطاننا العربية، واقع بات معروفًا إلى حد لا يحتاج توصيفًا ولا فتح جروح جديدة؛ بل يحتاج سؤالًا واحدًا صريحًا: متى ننضج؟ ومتى نعترف أن ما نحن فيه لم يعد قابلًا للانتظار؟

لقد راكمت شعوبنا معرفة واسعة، وتعلّمت، وانفتحت على العالم، وامتلأت بالقراءات والاختصاصات والتجارب. لكن المعرفة، مهما اتسعت، لا تصنع تحولًا إن لم تتحول إلى فكر. المعرفة تخبرك بما هو كائن، أما الفكر فيسألك: ماذا يجب أن يكون؟ وهنا تكمن إحدى أزماتنا العميقة. لسنا شعوبًا تفتقر إلى التعليم؛ بل شعوب لم تنجح بعد في تحويل معرفتها إلى مسار، وإلى رؤية تقود الفعل لا تكتفي بالتحليل. نعرف الخلل، نصفه بدقة، ثم نتعايش معه، وكأنَّ المعرفة أدت دورها وانتهى الأمر، وكأنَّ المطلوب منها الفهم لا التغيير.

ومن قلب هذا الإشكال يبرز سؤال لا يقل حساسية: هل نحتاج تغييرًا في الناس، أم تغييرًا في السياسات؟ الواقع يقول إنَّ النَّاس تغيّروا أكثر مما نتصور، وأن وعيهم سبق في كثير من الأحيان الأدوات التي يفترض أن تستوعبه. لكن السياسات، في مساحات واسعة من أوطاننا العربية، ما زالت تتحرك بحذر يفوق الحاجة، وبمنطق إدارة المجتمع لا إشراكه. والمشاركة هنا ليست شعارًا سياسيًا ولا فكرة مستوردة؛ بل شرط استقرار طويل الأمد، وامتداد طبيعي لقيم هذه المنطقة في الشورى والعدل واحترام الإنسان. فالأوطان لا تُدار طويلًا بعقول محدودة مهما حسنت نواياها، ولا تُحمى من الأخطاء إن بقيت بلا آليات تصحيح نابعة من المُجتمع نفسه.

ثم نصل إلى السؤال الذي لا يُمكن الهروب منه: هل الفقر هو عدونا الحقيقي، أم أن هناك من يستفيد من بقائنا في دائرة الحاجة؟ فالإنسان المحتاج لا يرفع صوته، والمثقل بأعباء الحياة لا يناقش السياسات، ومن ينتظر راتبه آخر الشهر لا يملك حق التفكير في موقعه من القرار العام. ومن يملك قوت الناس، يملك- بشكل أو آخر- تأثيرًا على قدرتهم على التعبير. هنا يتحول الفقر من تحدٍّ اقتصادي إلى حاجز سياسي، لا بالضرورة بفعل نيّة مُبيَّتة؛ بل نتيجة سياسات قصيرة النفس ترى في الإعانة حلًا، وفي الإنتاج مُخاطرة. وليس صدفة أن بعض أوطاننا العربية تشهد وفرة في الموارد المالية لا تصنع اقتصادًا، وعلى موارد لا تبني استقلالًا، فتظل الحاجة قائمة، ويظل الصوت أقل حضورًا مما ينبغي.

ومع ذلك، فإنَّ الإنصاف يقتضي القول إنَّ أوطاننا العربية ليست عاجزة ولا خاوية. نحن نملك عناصر قوة حقيقية: إنسانًا شابًا، ووعيًا يتشكل، وذاكرة حضارية تعرف معنى العدل والإنصاف، وتجارب نجحت حين أُتيح لها أن تنجح. ما ينقصنا ليس الإمكان؛ بل الجرأة على استخدامه، والانتقال من إدارة الأزمات إلى صناعة المُستقبل. كما نحتاج إلى إعلام صادق وموضوعي، يبني ولا يهدم، ويقوي العلاقة بين السلطة والمُجتمع، ويُعزز وعي النَّاس بمسؤولياتهم وقدرتهم على المشاركة؛ فالتحولات الكبرى في التاريخ لم تبدأ من ظروف مثالية؛ بل من لحظة وعي أدركت أنَّ الاستمرار في المسار ذاته هو الخطر الحقيقي.

والطريق الذي نبحث عنه ليس مستوردًا ولا منسوخًا من تجارب الآخرين. نحن أمة لها قيمها ودينها وتاريخها، وطريقها يجب أن يُصاغ بما يتفق مع هذه الثوابت: نهوض من الداخل، إصلاح من الذات، واقتصاد يقوّي الإنسان بدل أن يربطه بالاعتماد الأبدي. نحتاج إلى سياسات تضع الإنتاج قبل الاستهلاك، والمعرفة قبل الشعارات، والمشاركة قبل الوصاية، وتدرك أن إشراك الإنسان في القرار ليس تهديدًا للاستقرار؛ بل صمام أمان له. ولعلَّ ما ينقص هذا المشهد كله هو تضييق الفجوة بين القرار والمجتمع. فإشراك المجتمع ليس عبئًا على الدول؛ بل مصدر قوة لها من الداخل.

ختامًا.. ونحن نحمل أملًا وثقة في قياداتنا السياسية في أوطاننا العربية، نؤمن أن الحلم بالتغيير ليس مستحيلًا، وأنَّ الانتقال إلى الغد الأفضل يبدأ بإرادة واعية تقود المسار لا تتركه للمصادفة. الكرة اليوم في ملعب القيادات لتفتح آفاقًا أوسع لإشراك المجتمع في صنع القرار، وتعزز الشفافية، وتراجع التشريعات بما يُواكب نضج المجتمع وتراكم وعيه. ليس المطلوب قفزة في المجهول، ولا انقلابًا على الثوابت؛ بل انتقال هادئ ومدروس من إدارة الواقع إلى تطويره، ومن الاكتفاء بالاستقرار إلى بناء استقرار أعمق يقوم على الشراكة والمسؤولية والثقة المتبادلة. هكذا فقط ينضج القرار، وهكذا تصنع الأوطان مستقبلها حين تنضج الإرادة قبل نضج التين والعنب.

الأكثر قراءة

z