في تفاصيل الطريق تسكن حكايتنا

 

 

 

صالح بن سعيد الحمداني

 

أحيانًا كثيرة نجد الانتصار والهزيمة مفردتين يُختزل فيهما معنى الحياة في هذا العالم الذي يضج بالسباق المحموم نحو القمم، فنجد أن النجاح يُقاس بمقدار ما نحققه من أهداف وطموح، بينما الفشل يُختزل في كل ما لم نحصل عليه، ولكن السؤال هل حقًا يمكن أن نحصر الحياة فقط بين هذين القطبين فقط؟ متناسين أن الحياة أوسع وأعمق من أن تُختزل بينهما أو إنها مجرد نتائج نهائية؟

إن تغافلنا أحيانًا عن الحقيقة بأن الحياة هي ليست فقط ساحة معركة نخوضها وتُكسب فيها الغنائم أو تُمنى فيها الخسائر ولكنها الحياة هي تلك الرحلة الطويلة المليئة بالتغيرات النفسية التي تشكلنا كأشخاص وبتلك التجارب التي تصقلنا والتحديات التي نخوضها، هي تلك المسافة بين النقطة التي انطلقنا منها والنقطة التي وصلنا إليها، الحياة هي ما تحمله من لحظات نمو وعطاء، صعود وسقوط ومحاولات لنا متكررة للوقوف من جديد، وفي الرحلة ذاتها نحن نتغير ونكبر ليس في عمرنا حيثُ تُضاف أرقامًا من الأيام بل يزيد معنا الإدراك والنضج، نتعلم جيدًا كيف نتعامل مع ذلك الإحساس المسمى بالألم ونصبر عليه، وكيف نرى بصيص الأمل في تلك العتمة من الظلام، وأن في الصمت حكمة بالغة وفي التجارب التي نخوضها في طريق رحلتنا نجد أنها قيمة بحد ذاتها وإن لم نصل فيها لما كنَّا نطمح إليه وفي الخسارة درس تعلمناه وفهمناه جيدًا، فكم شخص فينا لم يُحقق طموحه وحلمه لكنه خرج من تجاربه أقوى وأعمق وأكثر فهمًا لنفسه وللحياة.

تصنعنا وتشكل ذاتنا تلك التحولات النفسية التي نمر بها على طول رحلتنا وتجاربنا، فأحيانًا لا نشعر بها إلا بعد مرور الوقت، نتذكر لحظاتٍ مرت بنا وكنَّا معتقدين أنها نهاية العالم ونقطة الانكسار والتوقف، لكننا في الحقيقة وجدنا أنها كانت بداية نضوج حقيقي لنا لتجديد وترميم ما أفسدته التجارب لننطلق للحياة بالأمل، نتأمل في تلك التجارب وفي خيباتنا فنراها اليوم كالهدايا لماذا؟ لأنها علمتنا الانضباط الذاتي والصبر والتواضع، علمتنا ما لم يكن بالإمكان أن نتعلمه ونتقنه في مقاعد الدراسة أو في كتب التحفيز، وأحيانًا قد نربح في الأرقام لكن بالمقابل نخسر أنفسنا وأحيانًا أخرى نخسر شيئًا ماديًا لكن نكسب الحكمة والمعرفة والنضج، فإذا كان الانتصار يمنحنا شعورًا بالإنجاز فإنَّ مقابلة التجربة بحد ذاتها تمنحنا الوعي، فالنجاح الحقيقي والفعلي لا يُقاس فقط بمقدار ما نملكه، ولكن يمكن أن يُقاس بالوقت ذاته بقدرتنا على التوازن وأيضًا على الاستمرار رغم الصعاب والمنغصات والمتغيرات، وعلى رؤية الجمال في التفاصيل الصغيرة التي تمر بنا كل يوم، ومن المهم جدًا لنا أن ندرك أن الرحلة فردية ولا يجب علينا مقارنتها برحلة الآخرين، لكل إنسان حياته ومساره في الحياة وسرعته، وابتلاءاته وسعادته، ومكنون ذاته ولحظاته الخاصة تلك التي يكتشف بها شيئًا عن ذاته، فالسعادة هي في الوعي بكل خطوة ونجدها في الاستمتاع بالبدايات وفي تقبل الفشل وفي امتناننا لكل تجربة علمتنا شيئًا جديدًا، وليست في الوصول لما حلمنا وطمحنا فيه فقط.

وعند نقطة النهاية، نهاية المطاف حين نصل إلى مراحل مُتقدمة من رحلتنا فإننا لن نتذكر لحظتها فقط كم ربحنا أو كم خسرنا، إننا سنتذكر "من" أصبحنا خلال تلك الرحلة، وسنذكر أولئك الأشخاص الذين غيرونا وسنذكر تلك القرارات التي ترددنا في اتخاذها ثم غيرت مسارنا للأجمل واللحظات التي بكينا فيها كثيراً وتألمنا ثم ضحكنا لاحقًا، كل تفاصيل الرحلة التي صنعتنا بحلوها ومرها سنذكرها جيدًا، وهنا يجب علينا أن نؤمن أننا يجب أن نتوقف عن مطاردة "النتائج" فقط، ولنتعلم ونفهم كيف نحب الطريق، بتحدياته وتعرجاته وآلامه ومشاقه، وبكل ما يحمله من مفاجآت، فالحياة في حقيقتها لم تكن فقط عن الانتصار والهزيمة؛ بل عن الرحلة ذاتها.

الأكثر قراءة

z