د. صالح الفهدي
تردَّد الامتنان في نفسي، قُلت: ما أعظم الامتنان!، كيف لمن يريدُ الطمأنينة وراحة النفس ألا يشعر بالامتنان؟! ومن أينَ تأتي السَّوداوية، والسَّلبية القاتمة إلا من فقدان الامتنان؟ الشكرُ هو مفتاحُ الامتنان "وإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم: 7)، والزيادةُ هُنا عامَّةٌ لا تقتصرُ على النعم الظاهرة وحسب، بل وعلى النعم الباطنة: راحة البال، هدوء الخاطر، اطمئنان الوجدان، التفاؤل، الإيجابية.
إن النظر دائمًا فيما هو ناقصٌ، ومفقودٌ بابٌ مُشرعٌ للسلبيَّة القاتمة التي تجلبُ القلق، والتوتر، والاكتئاب، والقنوط، وذلك مناقضٌ لأثر الإيمان في النفس؛ وقد وجدتُ من الأثرياء من يلعنُ الظروف على الخسارات، ويُصبُّ جام غضبهِ على الآخرين، لأن المشروع الذي أقامه لم يلاقِ الاهتمام، ووجدتُ من سوادِ الناس من لا يفتأُ ينتقدُ طوال الوقتِ حتى أصبح الانتقاد ديدنهُ، وطبعه!
لم يلتفت هؤلاءِ إلى الجانب الإيجابي أو الكأس المليءِ بالماء حتى قارَبَ أن يفيض، من نعمٍ عظيمة حباهم الله بها في أنفسهم وفي أُسرهم، وفي أموالهم، ولكن صدق الله العظيم إذ قال: "وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً"(الأنبياء: 35).
أخبرني صديقٌ عزيزٌ بأنَّه حاول مساعدةَ شخصٍ في أمرٍ من الأُمور، لكنَّ صدمه ردَّ هذا الشخص، إذ قال له: أنتَ من الذين يُنظِّرون ولا يرون الواقع، وليس الذي يدهُ في النار، كالذي يدهُ في الماء..! يقول الصديق: صدمني ردَّه، فكم قدمت له من مساعدات في أمورٍ كثيرةٍ، فكتبتُ له قائلا: أعتذرُ إن كنتُ قد أزعجتَك في مساعدتي لك!. قلتُ لهذا الصديق العزيز إنَّ هناك عبارة تقول: "ليست المشكلة في المشكلة ذاتها بل في طريقة النظر إليها، والتعاطي معها"، وهذا ما يتوافق مع عبارة جاءت في كتاب "تأملات" لماركوس أوريليوس، تقول: "إذا ضايقك أمر خارجي، فإِنَّ الألم ليس بسبب الشيء ذاته، بل بسبب حكمك عليه؛ وهذا الحكم أنت القادر على إلغائه في أي لحظة".
أعودُ إلى الامتنان، فهو علاجٌ فعَّال؛ فالذي يفتقده لن يبرأ داؤهُ بعلاجٍ على الإطلاق، الساخطُ صاحبُ عينٍ قاتمةٍ لا ترى إلّا السَّواد في الحياة، أمَّا الراضي فهو الذي يرى البياض الواسع في الوجود. يقول الشاعر:
وعينُ الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٍ
ولكنَّ عين السخط تُبدي المساوئا
لقد وجدتُ أن الدراسات التي نُشرت عن الامتنان تفيد أنه علاج لأمراض مختلفة، فهو يحسِّن الصحةَ، ويُعينُ على الصبر، ويجعلُ الأشخاص الممتنين أكثر قبولا وأكثر انفتاحا وأقل عصبية. وهكذا فالامتنانُ هو بوابةُ السعادة التي لا حدود لها.
وفقا للدكتور "روبرت إيمونز"، من جامعة كاليفورنيا، فإن الامتنان ينبني على مرحلتين أساسيتين؛ أولهما إدراك وجود الخير في حياة الإنسان، والشعور بأن هناك ما يبعث الطمأنينة والسرور في القلب، وهو ما يجعل المرء يوقن أن حياته تحمل ما يستحق العيش والاعتزاز. أما المرحلة الثانية، فهي الوعي بأن هذا الخير لا يصدر من الذات وحدها، بل تأتي بعض أسبابه ومصادره من خارجها.
وهذا ما سبق إليه ديننا الحنيف، فالآيات القرآنية الخاصة بالشكر كثيرة، وفي السنة النبوية الكثير مما يحثُّ على الامتنان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاء شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاء صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(رواه مُسلم).
الشاهدُ؛ أنَّ السَّاخطَ المتذمِّرَ يعاني من فقدان الامتنان، وهذا ينمُّ على فقرِ الإيمان، وضعف العلاقةِ مع الله، لأنه ينظر إلى ما يصيبهُ على أنه شرٌّ مُطلق، لا يُرى الخير فيه. ولقد سادَت تلك النظرات الساخطة، القاتمة، المتذمرة الكثيرين، فشلَّت قواهم، وعطَّلت هممهم، وأضاعت أوقاتهم، فأصبحوا ناقمين في جميع أوقاتهم، واعتلَّت صحتهم، فلم يروا الفرص السَّانحة، وغفلوا عن الرسائل الربانية إليهم.
الامتنانُ هو هِبةُ الله للبشر كي يسعدوا، ويطمئنوا، ويرغدوا، منبعهُ الإيمانُ بالله، ومفتاحهُ الشكر والرضا، من ناله نال السعادة، ومن فقده فهو شقاء دائم لا يخرجهُ منه إلا استفاقةٌ إيمانية.