على شارع الوطن

 

 

د. صالح الفهدي

جلستُ وابني العائد منذ يوم من عاصمة الضباب لندن، بعد أن أمضى عامًا كاملًا في جامعة "إمبريال كوليدج لندن"، ونحن نشربُ ماء النارجيل "المشلي" أمام محلٍّ بسيط، مواجهين لشاطئ السيب، حينما قال ابني وقد بدا مُستمتعًا باللحظة: بالأمس كُنتُ أجلس في شارع Mayfair في لندن وهو من أشهر وأثرى الشوارع في لندن، إنَّما هذه اللحظة التي أجلسها في شارع بسيط من شوارع وطني لا يُعادلها ثمن، ولا تُساويها أية مشاعر.

هذا الشعور المُكتنز بالطمأنينة لا يشعر به سوى من تغرَّبَ عن موطنهِ، أو من سافر حتى في إجازةٍ قصيرةٍ، إذ إنَّه حينما يعود وبمجرَّد أن يطأ أرض وطنهِ، يشعر بأمانٍ، واطمئنان، فكم تداولنا تلك الجملة بعد سفر من الأسفار، ونحن ندخل بيوتنا: "لا شيء يساوي الراحة والطمأنينة مثل البيت"، وما ذلك إلا تعبير عن حب الوطن والأُنس به.

في مُقدمة كتابي "مسيرة الإنجاز" الذي أصدرته وزارة الإِعلام منذ عشرين عامًا، كتبتُ في بداية فصله الأول: "كانت أوَّل رحلة لي خارج حدود هذا الساكن في الروح، الرابض في اختلاجة العروق: الوطن، في تلك الليلة كان الموعد الأوحد مع الحلم الذي لا أفق فيه، إنما كان له اتساع شاسع، ومدىً رحيبْ، لقد فاضت الصورة بتراب الوطنْ الدافئ، انهمرت عليه قطرات المطر في شبه تغريد مائي، روحاني، متصل بالسماء، مع عنوان لا مرئي يوصم المشهد بأنه الوطن.. لماذا لم يتسع الحلم لوجوهٍ أخرى غير هذا الوجه الكبير الناضح بعبقه في حنايا الذاكرة؟!" (انتهى).

يسكننا الوطن، فلا نجدُ له بديلًا في أعماقنا، ذلك البديل المعادل في الشعور العميق للانتماء بالأرض، والشعور بالهوية، فما كان الوطن يوما قطعةً من تراب اليابسة، أو بُركًا من ماء، إنما هو ذاكرةٌ، وتاريخٌ، وعاطفةٌ، وامتدادٌ جيني بشري متراكم عبر الزمن، كل ذلك يسكننا فيجعلنا نتمسَّكُ بوطننا، الذي نعدَّه "الأُمُّ الرَّؤوم" تلك الأم الحانية على أبنائها، والمشتاقة إليهم دائمًا أينما كانوا. يقول الشاعر العماني الكبير أبو مسلم الرواحي البهلاني:

لهَا عَلى القَلْبِ مِيْثَاقٌ يَبُوءُ بِهِ

إنْ بَاءَ بالحُبِّ للأوطانِ إيمانُ

حين التقيت بأحد اللاجئين في دولةٍ من دول العالم، دعا لي بدعوة واحدة كانت هي الأثمن له إذ عاش قساوة التشرُّد والإذلال، قال: "الله يخلِّي لكم وطنكم"، ولا يُمكن أن يشعر أي أحد بمثل شعورِ هذا اللاجئ الذي يمدُّ يديه طالبًا العون من النَّاس، وقد أفضى به الزمن مشرَّدًا، يشعر بذلَّةٍ وانكسارٍ في وطنٍ ليس وطنه.

حفظ الله وطننا، ومدَّ ظلَّه الآمن على من استظلَّه، وغرس حبًّه غرسًا في أبنائه، ينبتُ ولاءً وانتماءً ومحبَّة.

 

الأكثر قراءة