الوسطية.. ميزان الحياة ومفتاح السعادة

 

 

د. ناصر بن علي الجهوري

في عالم يتأرجح بين الإفراط والتفريط، تبرز الوسطية كنمط راقٍ للعيش المتوازن، لا هو انحياز للمبالغة، ولا هو انجراف نحو الإهمال، بل هو طريق مستقيم منير يحقق للإنسان راحته النفسية، ويمنحه القدرة على التفاعل الإيجابي مع واقعه ومع تفاصيل الحياة.

قبل الخوض في تفاصيل الوسطية، من المهم التفريق بينها وبين مفاهيم قريبة مثل التوازن والاعتدال والاعتراف بالاختلاف؛ فالتوازن يشير إلى حالة من التساوي بين عناصر معينة، بينما الاعتدال هو مظهر من مظاهر الوسطية يتمثل في الاعتراف بالمقاييس الصحيحة للأمور دون مبالغة أو تفريط. أما الاعتراف بالاختلاف فهو احترام وتقدير التنوع في الآراء والسلوكيات، وهو أحد أبعاد الوسطية التي تسمح بالتعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات. إذن، الوسطية ليست مجرد حالة توازن جامدة، بل هي فلسفة شاملة تجمع بين الحكمة والمرونة والاعتدال، وتُفضي إلى حياة متكاملة متزنة.

وفي السياق ذاته، فإن الوسطية ليست حكرًا على جانب بعينه، بل هي قيمة إنسانية راقية تعززها الحضارات الإنسانية عبر العصور، وليست فقط مبدأً دينيًا؛ إذ نجدها متجذرة في مختلف الثقافات التي سعت إلى بناء مجتمعات متماسكة ومتعايشة، حيث الكفة التي توازن الميزان، لا تميل إلى جانب على حساب آخر، بل تحفظ استقرار النظام العام في الحياة.

في تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، الوسطية قيمة جوهرية؛ فهي ترفض الغلو والتسيب، وتدعو إلى التوازن بين متطلبات الروح والجسد، وبين الحقوق والواجبات. قال الله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" (البقرة: 143)؛ أي أمة عادلة معتدلة. وعلاوة على ذلك، فإن هذا المنهج يُشجع على التسامح والتفاهم في الحياة الاجتماعية، مما يسهم في بناء جسور المحبة والتعاون بين الناس.

ومن الأمثلة التي تُعزِّز هذا المفهوم، أن الفكر المتزن والمعتدل لا يحصر نفسه في رأي واحد ولا يرفض كل ما سواه؛ بل ينفتح على التنوع والتعددية ويختار ما هو أصلح وأقرب للحقيقة. وهو يمنح الإنسان القدرة على الحوار البنّاء، وتقبل الرأي الآخر، وعدم مصادرة الفكر، ويجنبه التطرف والتشدق في تبني الأفكار أو رفضها.

كما إن السلوك المعتدل يظهر في التعامل مع الآخرين بإنصاف واحترام، دون إفراط في الثقة يعرّض صاحبه للاستغلال، ولا تفريط يولّد الجفاء والانعزال. والوسطية تتطلب وزن الأمور بعدالة، فنحسن لمن يستحق الإحسان، ونحذر ممن يُخشى شره، دون أن نفقد إنسانيتنا.

وفي الجانب العملي من الحياة، يحتاج الجسد كما يحتاج الروح، إلى توازن دقيق بين العمل والراحة. الإفراط في العمل قد يؤدي إلى الإنهاك والتعب المزمن، بينما الإفراط في الراحة يولد الكسل وفقدان الإنتاجية. الوسطية هنا تشبه الكفة التي توازن الميزان، بحيث نحقق الإنجازات والنجاحات دون أن نفقد صحتنا أو حياتنا الاجتماعية.

وفي السياق ذاته، فإن التوازن البيئي جزءٌ لا يتجزأ من فلسفة الوسطية؛ فكما إن الإنسان يحتاج إلى موارد الطبيعة للعيش، فإن عليه مسؤولية الحفاظ عليها لاستدامة الحياة وللأجيال القادمة. ولا شك أن الإفراط في استنزاف الموارد أو الإهمال في حمايتها يخلّ بالنظام البيئي، ويهدد التنوع الحيوي الذي هو أساس الحياة على الأرض. الوسطية البيئية تعني أن نستفيد من خيرات الأرض دون إسراف، ونستخدم التقنيات والموارد بوعي، ونسهم في إعادة التدوير والحفاظ على نظافة البيئة، حتى نحافظ على هذا الكوكب كبيت مشترك لكل الكائنات الحية.

مما سبق.. يتضح لنا أن الوسطية ليست ضعفًا ولا حيادًا سلبيًا؛ بل هي قوة الحكمة التي تُمكِّن الإنسان من أن يعيش حياة مستقرة، متصالحة مع ذاته ومع الآخرين. إنها الكفة التي توازن ميزان الحياة، وتمكننا من الصمود في وجه تحديات العصر. والتوازن في مختلف مناحي الحياة هو الضمان الحقيقي للنجاح والسعادة، وهو ما يجعل الوسطية منهجًا صالحًا لكل زمان ومكان، ومنهجًا تُحتذى به عبر حضارات البشر وتقاليدهم في كل بقاع الأرض.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة