د. سالم بن عبدالله العامري
في كل عام، ومع لحظةٍ محددة ودقيقة في الحساب الفلكي، تطرق ظفار أبواب التحوّل الكوني، حين تبلغ الشمس ذروتها في كبد السماء، متعامدة على مدار السرطان في 21 يونيو، فيبدأ فصل الخريف فلكيًا على أرض تختلف في قراءتها للفصول، وتُعيد تأويل الصيف لا كفصلٍ للقيظ والجفاف؛ بل كمقدمة لولادة الخصب، وتمدد الظلال، وتفتّح السحب كأكمامٍ مبللةٍ بوعد المطر، تتبدل معالم المشهد الطبيعي في المحافظة، كأنَّ الأرض تُعاد صياغتها بلغة المطر والضباب.
فلكيًا، يبدأ موسم الخريف حين تنقلب أنظمة الضغط الجوي فوق بحر العرب، فتهبّ رياح موسمية جنوبية غربية، تُبحر محمّلة ببخار المحيط، وتصطدم بجبال ظفار الشاهقة، فتنهمر الأمطار الرذاذية، وتتماسك السحب المنخفضة كستارة بيضاء تُظلل الجبل والساحل. هو خريف لا يُشبه الخريف، فلا جفاف فيه ولا ذبول، بل هو خريفُ الخصب والماء. هناك، على قمم جبل سمحان وجبل القمر تبدأ السحب المنخفضة في التكاثف، وتتشكل ظاهرة "الرذاذ المستمر" التي تميّز خريف ظفار عن سائر خريف الأرض.
إنه موسم لا يُقاس بميزان المطر وحده، بل بمدى سريان الرطوبة في الهواء، واتساع حزام الضباب، وتبدّل درجات الحرارة من الأربعينيات إلى العشرينيات، في مشهدٍ لا يحدث فجأة، بل ينزل تدريجيًا، كأنَّ الطبيعة تخفف أنفاسها وتتجه إلى السكينة. ويستمر هذا المشهد المتدرج في التحوّل خلال الأيام الأولى من الخريف، حتى تبلغ ظفار ذروتها الجمالية في شهري يوليو وأغسطس، فتتزين بثوبٍ أخضر، وتتحوّل إلى ما يُشبه واحة خضراء تتنفس الجمال وتهمس بالراحة. هذه البداية الفلكية التي تُطلق الخريف ليست مجرد حدث علمي؛ بل هي لحظة كونية تُعيد رسم العلاقة بين الإنسان والمكان. تُثير دهشة الساكن والزائر، وتُعيد تعريف مفهوم "الصيف" لدى من يعتقد أنَّ الفصول لا تتغيّر إلا بالمطر الغزير أو الثلوج. هنا، في ظفار، يتبدّل الجو بصمتٍ مهيب، كأنما تُعيد الطبيعة ترتيب نفسها على مهلٍ، فينزل الضباب كستار مسرحي إيذانًا ببدء العرض.
ومع اقتراب دخول موسم الخريف فلكيًا، تتحرك الجهات الحكومية في ظفار بحيوية واستباق، فهي لا تكتفي بمراقبة الطقس، بل تتهيّأ له كمن يستعد لاستقبال ضيف عزيز. ولأن خريف ظفار لا يُستقبل كحدث عابر، بل كضيفٍ فلكيٍّ عظيم تحمله الرياح وتبشّر به السحب، فقد بادرت الجهات الحكومية — وفي طليعتها بلدية ظفار ووزارة التراث والسياحة والهيئة العامة للطيران المدني، بالتنسيق الوثيق مع القطاعات الأمنية والخدمية والأهلية — إلى إطلاق خطة متكاملة شاملة، ومنظومة من الاستعدادات التي تتقاطع مع التحوّلات المناخية وتخدم أهداف التنمية السياحية، حيث تهدف هذه الخطة إلى تحويل زيارة ظفار خلال هذا الموسم إلى تجربة سياحية متكاملة، لا تقتصر على مجرد عبور خاطف نحو مشاهد الطبيعة الخلابة، بل تتجاوز ذلك إلى اندماج حيوي وواعٍ مع موسم تتلاقى فيه حركة الكواكب مع طقوس الإنسان، وتنصهر فيه مكونات الجمال الطبيعي مع إبداع الإنسان العُماني في الاستقبال والتوظيف السياحي والثقافي لهذا الحدث السنوي الفريد.
وهكذا، لا يُعدّ خريف ظفار مجرّد ظاهرة مناخية تتكرر كل عام، بل هو حدث فلكي وسياحي وثقافي تتفاعل معه الجهات الحكومية والمجتمعية بحسّ وطني واستعداد شامل، فمن لحظة تعامد الشمس، وبدء التغيّر في أنظمة الضغط الجوي، تبدأ رحلة التحوّل التدريجي في طبيعة ظفار، حتى تبلغ ذروتها في مشهد أخّاذ يجمع بين الضباب والرذاذ والخُضرة والسكينة، ووسط هذا التفرّد الطبيعي، تتكامل جهود مؤسسات الدولة لتحويل الموسم إلى تجربة متكاملة تعزز من مكانة ظفار كوجهة سياحية استثنائية، يعيش فيها الزائر لحظة نادرة يتقاطع فيها الوعي بالجمال، والفلك بالضيافة، والطبيعة بالإبداع.